السودان وأهمية العمل المنظم

السودان وأهمية العمل المنظم

28 اغسطس 2019
+ الخط -
شهد السودان، في الأيام الماضية، بدء العملية الانتقالية التي يعول عليها سودانيون كثيرون، من أجل بناء دولة عصرية قادرة على إحداث تغيير بنيوي جذري، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وقد بدأت اجتماعات المجلس السيادي المشكل استنادا إلى اتفاق تقاسم السلطة، الموقع بين المجلس العسكري وائتلاف قوى إعلان الحرية، ممثل المعارضة المدنية. وهذه مرحلة جديدة تحمل معها جميع آمال السودانيين وتطلعاتهم الممتزجة مع مشاعر وهواجس القلق والخوف، خوف من مكر قوى الثورة المضادة، ممثلة بالمجلس العسكري، وغدرها وإجرامها، أو بعض مكونات المجلس بالحد الأدنى، وبالقوى الدولية والإقليمية الداعمة له سراً أو جهاراً. ذلك أن نتائج ممارسات قوى الثورة المضادة وسياساتها في المنطقة العربية كثيرة ومتعدّدة وكارثية، غالبيتها كانت قد نجحت في حرف الثورات عن مسارها، وإدخالها في أتون حروبٍ أهليةٍ وإقليميةٍ ودوليةٍ ما زالت نيرانها مشتعلة، ومنها التي أدت إلى انتكاساتٍ سياسيةٍ كبيرة، عبر استعادة أبشع مظاهر الحكم الديكتاتوري العسكري والأمني. ونظراً لطبيعة المرحلة الانتقالية السودانية التشاركية مع قوى المجلس العسكري، المسؤول سياسيا وقانونيا وعمليا بشكل مباشر عن جميع الانتهاكات الممارسة بحق الحشود السودانية الثائرة بعد عزل البشير، فضلاً عن مسؤولية أعضائه المباشرة وغير المباشرة أحيانا عن الجرائم والانتهاكات والحروب والمجازر المتعدّدة في حقبة الرئيس المخلوع، عمر البشير، علينا القلق والتخوّف مما قد تحمله الأيام والأشهر المقبلة، سيما إذا فقدت قوى الحرية والتغيير ثقة الشارع السوداني بها، وبالتالي قدرتها على تنظيمه وتحريكه وإدارة شؤونه النضالية بالحد الأدنى.
لكن وعلى الرغم من حجم التخوف الكبير من غدر قوى الثورة المضادة المحلية والخارجية، يعتبر توقيع الاتفاق والبدء بتنفيذه إنجازا مهما، قياسا إلى مجمل الظروف الإقليمية والدولية،
 وربما المحلية السائدة في هذه المرحلة. يُحسب هذا الإنجاز للشعب السوداني أولاً، ولقوى الحرية والتغيير ثانيا، كونها الجهة التي قادت الحركة الاحتجاجية (الثورة) والعملية التفاوضية الطويلة والمتعبة. إنجاز يجب أن يدفع شعوب المنطقة، ونخبها السياسية والثقافية، وقواها ونشطاءها المدنيين والسياسيين، إلى مراجعةٍ ونقد ذاتي صارم وقاس، لا يغفل الإشارة إلى أوجه الخلل والقصور التي ساهمت في حرف الثورات والحركات الاجتماعية، ما مكّن قوى الثورة المضادة منها في أكثر من دولة عربية، قد يكون أوضحها في سورية واليمن وليبيا ومصر. وهو ما يتطلب الكفّ عن إلقاء التهم نحو العوامل الخارجية فقط، من دون التمعّن في الجذور الداخلية والذاتية التي سهلت، وربما دعت واستجدت قوى خارجية كي تتدخل في شؤوننا، ومكّنتها من زرع عملائها ومأجوريها، حتى أضحى هؤلاء القوة الفاعلة الأبرز، وربما الأوحد.
إذ لم ينجح السودانيون في تحقيق ما حققوه حتى اللحظة عبر التظاهر والاحتجاج فقط، وإلا لكان النجاح من نصيب ثورات عربية عديدة، وخصوصا اليمنية والسورية، وإنما عبر كيفية إدارة المعركة، فالشعوب تخوض معركةً من أجل تحقيق أهدافها، وهو ما يتطلب حشد الجهود وترتيبها وتنسيقها بأفضل طريقةٍ ممكنة، وإعداد قائمةٍ بمطالبها وشروطها الفورية وبعيدة المدى، وهو ما يمكن اختصاره بالتنظيم الجيد والواضح، التنظيم الاجتماعي والسياسي على حد سواء، فقد أثبتت التجربة العربية عموما، والسودانية خصوصا، أن الممارسة السياسية هي ذاتها النضال الاجتماعي الموجّه والمنظم والمحدّد. ومن دون ذلك، تتحول الممارسة إلى رد فعل عفوي ومتخبط، غير قادر على تحديد الوسيلة والطريق الأنسب لتحقيق أهدافه الرئيسية. هذا إن كان قادرا على تحديد تلك الأهداف أصلاً، فالعفوية والتخبط يولدان التسرّع في اتخاذ القرار، والاستخفاف بخطورة المرحلة وبقدرات الخصم، والاستهتار بأهمية الوسائل والآليات المتبعة أو المقترحة، ما يعيق الحركة عن تحقيق أهدافها، وربما يزجّها في معارك جانبية غير ضرورية، وغالبا ما تضل طريقها، وتفقد مسار تحقيق أهدافها، ما يفتح الباب واسعا أمام شتّى أنواع التدخلات الخارجية والداخلية المشبوهة، تعلقا بأي أملٍ قد يقرّبها من تحقيق أهدافها، حتى تتمكّن القوى المتدخلة من تمكين القوى التابعة لها ودعمها، حتى تقضي على قوى الثورة أو نشطائها المخلصين، مفرغةً الساحة من أي قوى وطنية مخلصة للثورة وللنضال الاجتماعي الأساسي.
في هذه المرحلة تحديدا، تختلف المسارات والخيارات وفق حجم التدخلات الخارجية وطبيعتها، ومدى إمكانات قوى الثورة المضادّة، بين استعادة الحكم الاستبدادي بأبشع حالاته، كالحالة 
المصرية، وتعدّد الاحتلالات والصراعات الدولية والإقليمية والداخلية الدموية، كما يحصل في سورية واليمن وليبيا، من دون الدخول في التباينات بين كل حالةٍ منها. وبمعنى آخر، يُعزى نجاح السودانيين إلى مدى حيويتهم وتنظيمهم النضالي، الحيوية التي تجلّت في إضرابهم المفتوح ومظاهراتهم المليونية، حتى بعد المجزرة المروّعة في الخرطوم قرب مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، وتتهم قوات الدعم السريع بارتكابها، بالإضافة إلى تنظيمهم الحركي والمطلبي والتكتيكي، بل وحتى التفاوضي، تنظيم مستمد من تجارب نضالية سابقة، مكّنت السودانيين من فرز قادتهم الميدانيين، ومن إيجاد هيئاتهم التمثيلية العليا، الحزبية وغير الحزبية، ما جعل من ائتلاف قوى الحرية والتغيير الذي يضم هذه الهياكل أو غالبيتها بالحد الأدنى، ممثلا حقيقيا للشارع السوداني، لا يمكن القفز عنه، أو حتى تجاوزه، عبر قدرته على تحريك الشارع في المكان والزمان والشكل النضالي الذي يحدّده أو يعلن عنه، كما تمكن الائتلاف من الحفاظ على سلمية النضال الاجتماعي، على الرغم من كم الاستفزاز والإجرام المرتكبيْن بحق المناضلين، ما سلب قوى الثورة المضادة والمجلس العسكري إحدى أهم نقاط قوتها، وحافظ على أحد أهم مرتكزات النضال الشعبي.
وأخيراً، تمتع الائتلاف بدرجةٍ عاليةٍ من الحنكة والإدراك السياسي الجيد، حتى اللحظة، بالحد الأدنى، لطبيعة الظروف والأوضاع الداخلية والخارجية، حتى فرض نفسه شريكا حقيقيا وكاملا في إدارة شؤون الوطن على طول المرحلة الانتقالية. في حين عجزت غالبية (أو ربما جميع) القوى والأحزاب والهيئات السياسية العربية التاريخية، والمشكلة في أعقاب موجات الثورات والغضب والاحتجاج الشعبي، عن تلمّس نبض الشارع، واكتساب الحد الأدنى من ثقته، كما أثبتت ضحالة تجربتها السياسية والنضالية؛ وقصور إدراكها السياسي داخليا وخارجيا؛ لتعجز عن تحديد مكامن الخطر وأسبابه ووسائل تجنبها؛ فضلا عن دافعها ومحرّكها الوحيد المتمثل في طبيعتها الانتهازية والمصلحية، ما جعلها ممثلة لمصالح القوى الخارجية، بدلا من العمل على تمثيل الحركات الاحتجاجية والثورية.
75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.