نافذتان على رام الله

نافذتان على رام الله

26 اغسطس 2019

(نبيل عناني)

+ الخط -
من يتابع جدار صفحة القاص الفلسطيني، زياد خداش، في "فيسبوك"، ثم يقرأ مجاميعه القصصية، سيقف، بسهولة، أمام نافذتين مطلتين على مدينة رام الله، أو مرآتين تعكسان تفاصيل الحياة، ونوازع تلاميذ مدرسته، وشخوصه الذين يشكلون نواةً لعموم الحياة في المدينة، أو تفاصيل الشارع الخلفي البعيد، بنوازع أطفاله ومهمّشيه وأحلامهم وأسئلتهم التي لا تختلف عن أسئلة بقية البشر الذين خلقهم الله وتفاصيلهم. فبين صفحة زياد في "فيسبوك" وصفحات قصصه الإبداعية تراسلٌ رشيق، فما تقوله صفحة الجدار الأزرق المتغيّرة تؤكده بعد ذلك القصص القصيرة التي سيودعها كتابه. يصوّر زياد ويسرد ما يدور في الشارع البعيد عن عين الصحافة. في مدرسته وبين طلابه، أو في الشوارع والمحيط الخارجي. تلك التفاصيل الأساسية للحياة التي تلتقطها عين القاص، كما يلتقط الصياد زاد يومه، فالقارئ لا يمكنه أن يلتقط بسهولة من شاشات التلفزة والراديو أو مناشير الصحف ما يدور من حياةٍ في الوطن الفلسطيني السليب، أو بالأحرى لا يعرف معاني التفاصيل الملقاة والمتناثرة على الأرض، وحوارات تلاميذ المدارس وأحلام الفتيات ونوعية جلاس المقاهي وحارس المدرسة، وهو ما تقوم به صفحته في "فيسبوك"، والتي تعكس في "بوست" جديد تفاصيل ومشاعر ديدنها الفرح والسخرية من مرارة طويلة الأمد.
قال الكاتب الفلسطيني المخضرم محمود الريماوي، يوما، في مدرج ابن خلدون في كلية الآداب في الرباط، إن الوقع المرير حين يكون طويلا لا يمكن التصدّي له سوى بالسخرية. واستحضر ضمن الأمثلة قصص زياد خداش، فالشعر يمكنه أن يلبّي نداءاتٍ لحظوية، أو مناسباتٍ من طبيعتها التغير، بينما القصة، بما تكتنفها من قدرة على التقاط دهشة العابر واليومي واختزاله، وبما ترتديه من سخريةٍ ومضية، هي المؤهلة أكثر لوصف الواقع المتحرّك اليومي، وهو ما يُتقنه خداش في قصصه، عبر أكثر من مجموعة أصدرها. كما أن جدار صفحته عاكس هو الآخر هموم ونوازع وتفاصيل عاديات الناس ووجوه الليل والنهار في رام الله. يرصفها زياد معجونةً بالسخرية، السلاح الأكثر خفّة لمواجهة هذه المرارة طويلة الأمد، فمن يقرأ مجاميعه القصصية يلتقط عناوين حية، من قبيل "إلى طالب ثانوي أحبه"، "هؤلاء هم أبطالي"، "مات كروان مات كروان"، "رام الله تحت المطر"، "أنور الذي بلا أسنان".. وهي شخوص ومشاهد وتفاصيل عايشها وصوّرها ووثّقها مجسّمة في صفحته في "فيسبوك"، قبل أن تتأهل، لاحقا، لأن تحتل مساحتها الخالدة في صفحات كتبه، كما يظهر زياد في مشاهدها كما لعبة سردية.
حدث ذلك في قصص عديدة، وهي لعبةٌ تتيح التماهي بين الواقعي والمتخيّل. أو كأن المتخيل ليس سوى واقع باحتمالات جديدة، فثراء تفاصيل الواقع ومفارقاته لا تحتاجان بالضرورة قوة الخيال لترقيته إلى مستوى الكتابة والقص. مثلا قبل إصداره مجموعته القصصية "أماني"، كان زياد يتحدث عن ملاقاته فرج، وهو في غرفة المعلمين في المدرسة، ثم تحضر الشخصية نفسها في سطور إحدى قصصه، ولكن في مشهد محبوك بعناية، ومصاغ بعربية، ومشحون بطاقة تخيلية واصفة، تؤهله لأن يحتل مكانته الخالدة بين السطور؛ وذلك في قصة "هل قتلت مخللات فرج محمود درويش"، حيث المقطع التالي: "آخر صدمات فرج قوله فجأة، ونحن نجلس جميعا في غرفة المعلمين: محمود درويش كان يموت في مخللاتي. أستاذ أنا اشتغلت في مطعم الفلاحة سنين طويلة، وكان محمود، يرحمه الله، دائم التردد هناك. وكان يسأل، وهو يأكل بتلذذ: من صنع هذا المخلّل؟ - فرج صديقي: يؤسفني أن أقول لك إن المخلل سبب رئيس للنوبات القلبية. - شو بتقصد أستاذ؟ - يعني مخللاتك هي التي قتلت محمود يا فرج. جن جنون فرج، أستاذ شو بتحكي مستحيل مستحيل. وعرفت فيما بعد من فرج أنه لم ينم ليلتها، وأنه ذهب في صبيحة اليوم التالي إلى ضريح محمود، وطلب منه أن يسامحه، فيما لو صحيح ما قاله الأستاذ زياد".
لذلك، استطاع هذا التجاذب بين الصفحتين، الافتراضية والورقية، أن يشكل نافذتين يطل القارئ منها على ما لا يستطيع رؤيته في نشرات الأخبار والصحف التي لا تحفل بالتفاصيل والهوامش والنبض الخفي للحياة.

دلالات

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي