عندما يريد ترامب شراء غرينلاند

عندما يريد ترامب شراء غرينلاند

26 اغسطس 2019

ظاهرة الأنوار الشمالية تجذب السياح إلى غرينلاند (2/12/2007/Getty)

+ الخط -
عبّر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن رغبته في شراء جزيرة غرينلاند، وحين رفضت رئيسة وزراء الدنمارك، بيتي فريدريكسن، بيعها له حَرِد، وألغى زيارة كانت مخططّة له إلى كوبنهاغن. وغرينلاند أكبر جزيرة في العالم، وهي كيان مستقلّ ذاتيا، له حكومة خاصّة وبرلمان، ولكنه يتبع الدنمارك في السياسة الخارجية وقضايا الدفاع. تساهم حكومة الدنمارك بثلثي إيرادات ميزانية غرينلاند، بينما يسهم صيد الأسماك بالثلث الباقي. ولكن احتياطيات النفط والغاز والمعادن النادرة المحتملة بدأت باجتذاب شركات التنقيب إليها. تبلغ مساحة الجزيرة ثلاثة أضعاف ولاية تكساس، أي أكثر من مليوني كم مربع، ويسكنها أقلّ بقليل من خمسين ألف نسمة فخورين ببلدهم وبانتمائهم له.
بدا الأمر بداية كأنه نكتة. ترامب يريد شراء بلد بأكمله! ولكنّ التقارير بعدها أظهرت أن الرجل جادّ في طلبه، ما أطلق العنان لسيل من السخرية على شاشات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي. ورفضت رئيسة وزراء الدنمارك بيع الجزيرة العملاقة، ووصفت طرح الرئيس ترامب بأنه سخيف، وقالت إنها تأمل ألا يكون الرئيس جادّا فيما يقول. وأضافت إن الجزيرة ليست معروضة للبيع. وشدد رئيس وزراء غرينلاند، كيم كيلسن، بوضوح، على أن غرينلاند ليست للبيع، "والأمر انتهى الآن".
في البداية، كان ردّ ترامب مهذّباً على غير عادته، حين قال إنه يشكر السيدة فريدريكسن، لأنها كانت "واضحة ومباشرة"، ووفّرت "نفقات وجهداً" كثيريْن على كلا البلدين. ولكن سيل السخرية التي تلقاها ترامب على عرضه، جعله يغيّر خطابه في اليوم التالي، ويهاجم رئيسة الوزراء الدنماركية، ووصف ردّها على اقتراحه بأنه "بغيض". وأضاف، في حديث للصحافيين في حديقة البيت الأبيض، "تصريحها كان غير مناسب. وكلّ ما كان عليها فعله هو أن تقول: لا، لسنا مهتمين بالعرض".
كان انزعاج ترامب من ردّ فعل الدنماركيين واضحا. والحقيقة أن ردّ الفعل لم يكن محصورا
لدى فريدريكسن وحدها، بل وقف الطيف السياسي الدنماركي بمعظمه ضدّ اقتراح ترامب. واتفق على ذلك اليمين واليسار، واصفين الاقتراح بأنه "وقح". وحتى السياسي اليميني الشعبوي الذي غالبا ما يلتقي مع أطروحات ترامب الشعبوية، سورن أسبرسن، مسؤول السياسات الخارجية في حزب الشعب الدنماركي، رأى في إلغاء ترامب زيارته كوبنهاغن "إهانة للملكة (مارغريتا الثانية) التي دعته لزيارة رسمية". وفي الوقت نفسه، يرى اليسار أن تصريحات ترامب عن أهمية شراء الجزيرة الدنماركية لمصلحة أميركا الاستراتيجية "ينم عن عقلية استعمارية".
بالنسبة للرئيس ترامب، كلّ شيء يقاس بالمال. وهو يستغرب حين يرفض أي شخص عرضا ما، على الرغم من ارتفاع مقابله المادّي، ففي ردّه الأول على رفض رئيسة الوزراء فريدريكسن، قال إنها وفّرت عليه تكاليف رحلته إلى كوبنهاغن. وفي ردّه الغاضب الثاني، قال إن الدنمارك تنفق سنويا 700 مليون دولار على الجزيرة، فكأنه يُسدي لها معروفا بتوفير تلك النفقات. وليست هذه المرّة الأولى التي يقيس فيها ترامب الأمور بالمال، فقبل سنوات، دفع 130 ألف دولار لممثّلة أفلام البورنو، ستورمي دانييلز، لكيلا تفشي علاقته بها. وفي خطابه قبل أسابيع في نيوهامشر، إنه ليس أمام الأميركيين خيار آخر سوى التصويت له، أحبّوه أم لم يحبّوه، خوفا على تقاعدهم. لا يستطيع ترامب أن يستوعب أن ثمّة أشياء لا تباع ولا تُشترى، منها الحبّ والكره والوطن والذكريات، وجميعها غريبة عنه.
الأمر الثاني الذي غالباً ما يحرّك ترامب نرجسيته وأناه المتضخّمة. حين أعلن في أثناء ترشّحه للانتخابات في عامي 2015 و2016 عن عزمه بناء جدار فاصل بين الولايات المتحدّة والمكسيك، وأن المكسيك هي من ستدفع فاتورة ذلك، أعلن رئيس المكسيك السابق، إنريكي بينا نييتو، أن بلاده غير عازمة على دفع تكاليف بناء الجدار في كل الأحوال. ولأن صورته تهمّه أكثر مما يهمه الجدار، اتصل ترامب بالرئيس نييتو، ورجاه أن يتوقّف عن قول ذلك.
وفي الحالة المستجدة، لم يكن ما يهمّ ترامب أن يشتري غرينلاند أو لا، بقدر ما اهتمّ بالسخرية من عرضه من الدنماركيين ومن وسائل الإعلام في بلاده. ولذلك جاء ردّه عنيفا، وهاجم إحدى أهم حليفات الولايات المتحدة، كما سبق أن هاجم رئيسة وزراء ألمانيا، أنغيلا ميركل، والرئيس 
الفرنسي، ماكرون، ورئيسة وزراء بريطانيا السابقة، تيريزا ماي.
ليست الدنمارك حليفا عابرا للولايات المتحدة، فقد شاركت في الحروب التي خاضتها أميركا في أفغانستان والعراق، على الرغم من تعداد جنودها القليل نسبيا (17 ألف عنصر). وأرسلت 750 جنديا إلى أفغانستان، وتقلص العدد أخيرا إلى 160 جنديا حاليا، علاوة على أن عشرات من المستشارين الدنماركيين يعملون حاليا في العراق تحت مظلة حملة مكافحة "داعش". وخسرت الدنمارك 43 جنديا في أفغانستان، وقُتل سبعة من جنودها في العراق، وتعد الحرب في أفغانستان أعنف حملة عسكرية في تاريخ الدنمارك الحديث، كونها كانت بلدا محايدا في الحربين العالميتين، الأولى والثانية.
وليست هذه أول مرة اشترت فيها الولايات المتحدة أراضي وبلادا، ففي عام 1803، اشترت إدارة توماس جيفرسون مقاطعة لويزيانا من الحكومة الفرنسية بمبلغ 15 مليون دولار. وفي 1867، اشترت إدارة أندرو جونسون مقاطعة ألاسكا من الحكومة الروسية بمبلغ 7.2 ملايين دولار، أي بمعدل خمسة سنتات للهكتار (عشرة آلاف متر مربع). كما اشترى ودرو ولسون جزر الهند الغربية من الدنمارك نفسها في عام 1917. كما أنها ليست أول مرّة يحاول فيها الأميركيون شراء غرينلاند، فقد حاول الرئيس هاري ترومان (1945 – 1953) شراءها، 
بدون جدوى.
اليوم، يغامر الرئيس ترامب بصورته في صفقةٍ لم تتمّ، ويضيف عدوا جديدا إلى قائمة أعدائه الجدد من الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة: رئيسة وزراء الدنمارك، بيتي فريدريكسن. ومع ذلك لا يزال يحافظ على علاقات قوية مع رئيسي روسيا فلاديمير بوتين وكوريا الشمالية كيم جونغ أون، ورئيس وزراء بولندا ماتيوس مورافيسكي، وحفنة أخرى من عتاة الدكتاتوريين في العالم.
يشبه ترامب الولد المتنمّر في المدرسة والذي يتحاشاه الجميع، أو يضطرون لمجاملته. وحين يقف أحدهم، خصوصا لو كان أصغر منه حجما وسنّا، يفقد أعصابه ويدرك ما يفعل. هذا تماما ما فعله ترامب، حين نقل حديثه من الدنمارك إلى الصين، ورفع يديه إلى السماء، وقال: "أنا هو الرجل المختار" لتحقيق ما عجز أسلافه عنه.
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
وائل السواح

باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.

وائل السواح