جفاء مع سبق الإصرار

جفاء مع سبق الإصرار

26 اغسطس 2019

(فاتح المدرس)

+ الخط -
سألتها عن سبب حزنها وحيرتها في هذه الأيام.. الصديقة غير المقرّبة التي ألتقيها صباحاً في المقهى مصادفة، بين حين وآخر، فنتحدّث قليلاً في شؤون عامة، وهي المرأة ذات الطبيعة الحسّاسة التي تميل إلى البساطة والوضوح والمباشرة المكتئبة بشكل جليّ، والتي لا تكفّ عن الدهشة لفرط براءتها من قدرة الآخرين على إلحاق الأذى بشكل مجاني، وهي تحاول أن تكون موضوعيةً قدر الإمكان في تقييم علاقاتها الإنسانية، على الرغم من أن وضعها النفسي الراهن، على ما يبدو، لا يحتمل الحياد، وهي التي اتخدت من المحبة والعطاء وإنكار الذات والصدق والوفاء عناوين تحدّد علاقاتها بالآخرين في مسار حياتها الذي أوشك على الأفول، برغبة منها، كما فهمت..
أجابت عن سؤالي، وهي ترتشف قهوتها الخالية من السكّر: صديقة طيبة حنونة، تكبرني عمراً، اعتبرتها في زمن ما أماً ثانية. ألجأ إليها في لحظات ضعفي وحزني. أبوح لها بكل ما يجول في روحي، وأشاركها همومها وأقف معها في لحظات الشدة، وأسندها بكل ما أوتيت من قدرة على التعاطف. كنت أجد في صداقتنا التي ظننتها أبدية الملاذ الآمن، غير أن الأمر تغير حال تجاوزي مرحلة صعبة، كنت فيها في حالة ضعف وعجز وغضب. لملمت على إثرها ما تبعثر من حياتي، وتخلصت من أسباب خوفي وقلقي. وفي الوقت الذي توقعت فيه أنها ستشاطرني الفرح، تكشفت شخصيتها عن جانب آخر لم أصادفه من قبل. أحسست بأن نهوضي من عثرتي سبّب لها ارتباكاً وضيقاً لم تتمكّن من إخفائه بجمل التشجيع والمؤازرة المفتعلة اللطيفة، التي لا تخلو من قدر كبير من المجاملة.
صديقة ثانية ارتدت ثوب الطيبة والمسكنة، كانت ظروف حياتها صعبة على أكثر من صعيد، فتحت لها بيتي، وأغدقت عليها كل أشكال الدعم الممكنة. ومنحتها الثقة المفترضة بين الأصدقاء، على الرغم من تحذيرات كثيرين وصفوها بالعقربة التي لا يُؤتمن جانبها. لم ألق بالاً لتحذيراتهم، بل اعتبرتهم قساة قلوبٍ يتجنون على صديقتي الطيبة المسكينة صاحبة صاحبها الذي تحمي غيبته، المرهفة المشاعر ذات القلب النقي الكبير الذي لا يعرف سوى المحبّة والعرفان بالجميل! وحين دارت الأيام دورتها، تبين لي مقدار الحقد والسواد المرضي الذي يكتنف روحها الباطنية الشوهاء التي تضمر الغدر والخسّة، على الرغم من أنها تحسن انتقاء الألفاظ العذبة الكفيلة بالتضليل وتأكيد الخديعة.
أما صدمتي الكبرى التي جعلتني فريسةً لليأس المطلق، فغسلت يدي من الدنيا ومن فيها، ودفعتني إلى الغوص عميقاً وبلا طائل في التأمل بكل ما مضى، فكانت غياب صديقة مفاجئاً وغير مبرّر، وهي تعرف أنها أقرب إليّ من نبض القلب. أقدمت على ذلك في عز الحاجة لحضورها، لكوني أعبر أشدّ مراحل عمري حلكة ووحشة. توخيت فيها، منذ البدء، العزاء والتعويض وصخرة الاتكاء الثابتة الصلبة التي تسند روحي المتعبة، وهي تواجه منفردة أشباح الفقد المرعبة، تحوم حولي، مهددة إياي في مقتل، غير أن الصديقة المزاجية قرّرت في ليلة ما فيها "ضو قمر"، ومن دون مقدّمات، ومن دون أن تكلّف خاطرها أن تقدّم إيضاحاً ما، يحلّ لغز ذلك الجفاء من طرف واحد مع سبق الإصرار والترصّد، ومن دون أن تدرك عمق الإهانة ومقدار خيبة الأمل وفقدان اليقين والإحساس باللاجدوى الذي ألمّ بي. كان عليّ أن أحتمل الألم والجرح من أعز الناس، احتراماً لرغبتها الواضحة في الابتعاد، لأسبابٍ ما زالت غير واضحة بالنسبة لي، ولأني أمقت دور الضحية الذي لا يليق بي، لم يكن هناك مفرّ من قبول أمر صار واقعاً.
غرقت المرأة المكتئبة بعد فيض البوح ذاك في صمت عميق. ونظراً لطبيعة علاقتنا شبه الرسمية، على الرغم من الودّ الكبير، أثار كلامها المباشر وغير المتوقع حيرتي، وأكد عجزي عن التفوه بما يواسي روحها المصابة، فاقترحت عليها فنجان قهوة آخر، وقطعة حلوى عالية السعرات الحرارية، ثم انخرطنا في حديث طويل بلا معنى، عن حالة الطقس وأزمة المرور الخانقة في شوارع عمّان المكتظة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.