الجيش وانحباس الوضع في الجزائر

الجيش وانحباس الوضع في الجزائر

25 اغسطس 2019
+ الخط -
يتحرّج المثقفون والنخب في الجزائر من نقد الجيش، بعضهم خوفاً وآخرون اعتباراً لحساسية وطنية مرهفة تجاه هذه المؤسسة، وخصوصاً أن هذا الجيش سليل جيش التحرير، ومن قادته الحاليين من قدّموا من تلك الأحراج أكاديمية مفتوحة، تدرّبوا فيها على الشهادة والحرية. والثورة الجزائرية هي من الثورات القليلة التي كان فيها السلاح حاسماً لطرد الاستعمار وجرّه إلى مفاوضاتٍ مكسوراً، وقد منحت هذه الشرعية التاريخية والمشروعية الأخلاقية قبولاً واسعاً للجيش. حرب التحرير الوطنية حقيقة لها أثرها البالغ في وجدان الجزائريين وثقافتهم. ولا يمكن تحليل التاريخ المعاصر للجزائر، أو حتى الراهن، من دون استدعاء الجيش متغيراً متحكّماً تقريباً في كل التطورات التي مرّ بها البلد.
غير أن هذا الحضور المكثف للجيش في ثقافة الجزائريين، فضلاً عن يده المبسوطة على مفاصل الحياة، قد يكون السبب في ما عاشته وتعيشه الجزائر من استعصاءٍ يمنعها من تحول ديموقراطي حقيقي. وبقطع النظر عن دور الجيش في إجهاض ربيع الجزائر خلال بداية التسعينيات، ودخول البلاد على إثرها في أتون حربٍ أهليةٍ مدمّرة، في ضوء الشهادات المتناقضة لكبار قادة الجيش وضباطه خلال تلك الفترة (الجنرالان محمد بتشين وخالد نزار وغيرهما)، فإن للجيش مسؤولية تاريخية في ما آلت إليه الأمور. ولا تستغرب دراساتٌ جادّة عديدة، مختصةٌ في التاريخ السياسي والاجتماعي للجزائر المعاصرة، أن يكون قد أعاق تشكل النخب الجزائرية بشكل سوي.
في سياق جزائري، تسلّم فيه الجيش الحكم، وظل تقريباً يعيّن من يحكم البلاد، على الرغم من تفاصيل صغيرة للديكور المدني المستجدّ من تعدّديةٍ سياسيةٍ، ونزع البزّة العسكرية عن رجال الحكم، فإن النخب السياسية حرمت من حقل التجربة التي يتدرّب فيها الفاعلون على لعب السياسة، وفق قواعد يحدّدونها هم أولاً وأخيراً، كما كان ذلك عاملاً أعاق تشكيل حاضنةٍ لتوليد النخب وتجديدها، فنمت الزبونية السياسية التي استفحلت فيها قيم الولاء والطاعة والخضوع والمحسوبية.
وقد أهدر حشر الجيش نفسه في الشأن الاقتصادي، في ظل اقتصاد ريعي، تتحكّم الدولة في 
فيئه، إمكانية تشكّل برجوازية وطنية قائمة على الاستثمار والعمل، مقابل ترسيخ ثقافة توزيع الريع وشراء الولاء وحتى السلم الاجتماعي. كان هذا المناخ ملائماً لانتشار الفساد الذي نخر الاقتصاد الجزائري، وشوّه صورة عدد من كبار ضباط الجيش الذين تحوّلوا إلى "مهرّبين كبار". ولعل الفضائح التي تتالت في الأشهر القليلة الماضية، و"حملات محاربة الفساد" التي شنّتها السلطة، دليل على تدخل الجيش في قطاع المال والتجارة. وهي حملات لم تسلم من شبهة "تصفية حسابات" داخل مراكز القوى، علاوةً على رغبة الجيش في إعادة صياغة صورة مؤسسة تورّط كبار ضبّاطها في مثل هذه الأعمال المسيئة.
ومع كل هذه العيوب، يظلّ الجيش الجزائري، لدى قطاعات واسعة، صمام أمانٍ يمنع البلاد من السقوط في الفوضى، وخصوصاً وهم يستحضرون رعب العشرية السوداء التي عرفتها البلاد. وأكيدٌ أن هذه أصبحت لدى بعضهم أصلاً تجارياً يستثمر في ترهيب الجزائريين من الانحياز إلى مطالب التغيير. وزاد حضور العسكر في قلب المعادلة السياسية من تعقد الوضع.
لم تقف المؤسسة العسكرية على خلاف ما تدّعي، إلى جانب مطالب الحراك الاحتجاجي. ولا حاجة للتذكير بعشرات التصريحات المتناقضة لقيادة أركانه، غير أن ذلك لا يتيح أيضاً ادعاء أنه كان مناهضاً لها، غير أن رغبته في احتوائها واضحة، بل تحول إلى لاعب سياسي كاسح. لقد تحدّد، من دون تفاوض مع رموز الحراك، صاحب القرار الوحيد في الأجندات السياسية وطبيعة المرحلة ومقتضياتها. رفض الحديث عن مرحلة انتقالية في معاداةٍ تامةٍ لمطالب المراحل الانتقالية ومقتضياتها. وهو بهذا، لا يضع نفسَه حكماً بين الجزائريين، ولا ضامناً لإرادة الشعب، كما يزعم، بل وصيّاً على الجزائريين، فهو عقل الجزائر الأكبر الذي يدرك بحكمته مصلحة البلاد.
بعد أكثر من نصف سنة تقريباً على اندلاع الحراك الشعبي، تراوح الأمور مكانها، فباستثناء انسحاب الرئيس بوتفليقة، ثم إيقافات ومحاكمات لبعض الرموز، وبقطع النظر عن مدى احترام هذه الوقائع أركان العدالة والنزاهة وحقوق الإنسان، فإن مطالب النخب السياسية الحريصة على انتقال ديموقراطي حقيقي ما زالت معلقة. ويراهن العسكر على خفوت وهج الحراك وإنهاكه واستنزافه، من دون التورّط المباشر في قمعه. ولكن يبدو أن حساباتٍ كهذه قد تكون باهظة التكلفة. حالة الانتظار والانحباس التي شلّت البلد لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. ربما يهترئ صبر الحراك، ولكن أشواق الحرية كاملة ستظل تراود الجزائريين، ولو بعد أجيال، وهم يروْن أشقّاءهم السودانيين قد وجدوا طرقاً لحل خلافاتهم مع مؤسسة العسكر، بما يحقق طموحاتهم في انتقال ديموقراطي مفعم بالحرية والعدالة. سيكون إنصات الجيش لمطالب المحتجّين من دون مكابرة، وتنشيط الحوار والوساطات السياسية، وإيجاد سيولة سياسية قائمة على صفقات تاريخية كبرى بين الدولة والمجتمع، شروطاً للتجاوز.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.