إعادة تأهيل دولة

إعادة تأهيل دولة

25 اغسطس 2019
+ الخط -
استقبل رئيس الوزراء الفرنسي، إدوارد فيليب، في يونيو/ حزيران الماضي، نظيره الروسي المتحول رهن إشارة القيصر بوتين، من رئيس جمهورية إلى رئيس وزراء، ديميتري ميدييديف. وكان فيليب مكلفاً من الرئيس إيمانويل ماكرون بفتح مساحة حوار مع نظيره الروسي. وعلى الرغم من سيطرة البعد الاقتصادي على المباحثات، إلا أن الحدث اعتبر خطوة سياسية بامتياز، تسعى منها فرنسا إلى طي صفحة الخلافات المتشابكة مع موسكو.
وفي التاسع عشر من شهر أغسطس/ آب الحالي، استقبل ماكرون نظيره بوتين في القلعة المخصصة منذ 1968 للعطلة الصيفية الرئاسية. وهذه هي الزيارة الرسمية الثانية لبوتين التي تجري في ظرفٍ حميمٍ، فبعد الاستقبال الغريب بروتوكولياً الذي جرى له غداة انتخاب ماكرون سنة 2017 في قصر فرساي، يضفي ماكرون طابعا متحرّرا من الرسميات باستقباله على شاطئ المتوسط في محاولةٍ لإضفاء شيء من المرونة على جدّية محاوره.
ذكرت صحيفة لوموند، في افتتاحيتها، يوم الزيارة، أن "سيد الكرملين يُحب القوة ويكره الغرب". ويبدو هذا واضحاً من خلال اللجوء إلى العنف لحل ملفات روسيا الخارجية، فمن الحرب ضد أوكرانيا إلى تهديد جورجيا مروراً عبر تدمير الشيشان، وأخيراً وليس آخراً، قصف السوريين وقتلهم من دون تمييز ولا قلق. كما أن كره قيم الغرب أضحى تعبيراً صريحاً تتم ترجمته في كل آليات دعم موسكو الأحزاب اليمينية المتطرّفة والأحزاب الشعبوية المختلفة، كما في دعم الحركات الانفصالية في سعي إلى ترجمة ما عبّر عنه بوتين مرات إن "من دمر الاتحاد السوفييتي يجب عليه أن ينتظر دوره في الدمار أيضاً".
تعتبر موسكو زيارة القصر الصيفي تعبيرا عن انتصار روسي كبير في كسر الحصار
الدبلوماسي ضدها، والاعتراف الصريح بعودة قوية لها إلى مسرح العلاقات الدولية. ويبدو هذا صحيحاً، خصوصاً في ظل الغزل الدبلوماسي الذي بدأ بانتقاد ماكرون الصريح عقم الموقف الفرنسي تجاه موسكو في عهد سلفه فرانسوا هولاند، والذي أُضيف إليه قبول ودعم فرنسي قوي لعودة روسيا إلى مجلس أوروبا، بعد تجميد عضويتها نتيجة احتلالها جزيرة القرم الأوكرانية سنة 2014. وتم تتويج الغزل أخيراً بسعي فرنسي مدعوم أميركياً لعودة روسيا إلى قمة عمالقة الاقتصاد، فروسيا بالنسبة لماكرون "قوة تنويرية عظمى لها مكانها في أوروبا القيم التي نؤمن بها" (...). وعودة بوتين إلى حضور اجتماعات هذه المجموعة الاقتصادية للدول المسيطرة مهمة أيضا لصديقه ترامب الذي انتقد بشدة أيضا دور سلفه باراك أوباما، والذي أفضى إلى إبعاد روسيا، لأن أوباما، حسب ترامب، "لم يعد يرغب بروسيا لأن القيادة الروسية بدت أكثر فطنة منه".
وعلى الرغم من محاولة إضفاء جانب خلافي على ملفات المحادثات بين ماكرون وبوتين، وهي كثيرة، تشمل سورية وأوكرانيا وحقوق الإنسان والتغير المناخي والأزمة النووية الإيرانية، إلا أن الانتصار كان بائناً في هذه الجولة لبوتين، فكما عودنا خرّيج المخابرات السوفيتية بامتياز، هو لا يعطي بالاً لكل الانتقادات الموجهة لسياساته الحربية والخارجية والداخلية، وإنما يركّز، كسواه من الرؤساء الشعبويين في العصر الحديث، وهم يتكاثرون اضطراداً، على تسجيل النقاط الاستعراضية، وإرسال الرسائل التي تنقط سماً زعافاً تجاه محاوريه. ويتم هذا كله في ظل وضع داخلي متوتر نسبياً، حيث يشهد الشارع الروسي احتجاجاتٍ جريئة ضد الانتهاكات
الممنهجة لحقوق الإنسان، ولحرية الانتخاب والترشّح. وفي ظل انكماش اقتصادي متجذّر، يجعل من اقتصاد روسيا أحد الاقتصاديات الفاشلة التي تؤخذ مثلا، حيث يقترب ناتجها القومي من الناتج القومي الأضعف أوروبيا، وهو مسجل في إيطاليا. وعلى الرغم من سعي الرئيس الفرنسي، أو ظنه، أن الأوضاع الداخلية الروسية يمكن أن تلين من موقف بوتين للتعامل بإيجابية نسبية في الملفات الخلافية، ما دفعه أيضا إلى الإعلان عن قرب انعقاد قمة رباعية تجمعه ببوتين والرئيس الأوكراني الجديد والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إلا أن الرئيس الروسي ما زال ممسكاً بدفّة توجيه المباحثات. وعندما أشار ماكرون بخجل "مُخجِل" إلى أن الهجوم على إدلب يجب أن يتوقف بناء على اتفاقية وقف التصعيد، ولم يتطرّق ألبتة إلى عموم الوضع السوري ومذابح الروس ودور المليشيات الطائفية، فهو سرعان ما حصل على إجابة/ صفعة من بوتين الواثق بعنف من موقفه، قائلاً له "إنه يدعم القوات السورية في معركتها ضد التهديدات الإرهابية".
في مسعاه التصالحي، ماكرون وحيد، حيث تعاني ميركل من الضعف، وبريطانيا تدير عملية خروجها من الاتحاد الأوروبي بطريقة ترامبية، وحلفاء موسكو بازدياد أوروبيا عبر صعود أحزاب اليمين المتطرّف في انتخابات العديد منها. هذا كله، وعلى الرغم من ثقته الزائدة بالنفس، يضع ماكرون في موقف تفاوضي ضعيف، لن ينقذه منه حاليا الاستمرار في التنازل أمام قيصر موسكو. إنها محاولات بائسة ربما بحق نظامٍ بنى واقعيته السياسية الدولية على عقيدة معادية للغرب. وقد تساءلت "لوموند" عشية الزيارة القيصرية عن "المصلحة في إعادة تأهيل دولةٍ تصرّح علنا إن هدفها تدمير النظام الدولي، وربط كل أوروبا بنظامها العسكري/ الأمني".