أنا المُختار؟

أنا المُختار؟

24 اغسطس 2019
+ الخط -
أن تشعر بقوة هائلة في داخلك أمر، وأن تتوهّم وجود مثل تلك القوة أمر آخر، غير أن الأمرين سيّان بالنسبة للرئيس الأميركي دونالد ترامب. وهو ما كشفه خلال سنوات حكمه. قبل أيام، كان يتحدث عن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة. وكعادته، حمّل أسلافه في البيت الأبيض مسؤولية "عدم فعل شيء أمام التمدّد الصيني"، معتبراً أنه "كان يجدر مواجهة الصين منذ زمن بعيد". ثم حلّت اللحظة السحرية. رفع عينيه إلى السماء، وبسط يديه قائلاً: "أنا هو المُختار لمواجهة الصين".
استعار ترامب مصطلحاً توراتياً، كان سائداً في زمن رعي المواشي والتنقّل في بوادي الشرق الأوسط وصحاريه وصولاً إلى فلسطين. كثر سعوا إلى الوصول إلى أرض الميعاد، ومنهم من كان يمنّي النفس بأنه "المُختار الذي سيقود شعب الله" إلى الأرض ـ الجنّة الموعودة. هو المصطلح عينه الذي "شعر" به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في 6 ديسمبر/ كانون الأول 2017، حين أعلن ترامب القدس المحتلة "عاصمة لإسرائيل". نتنياهو لم يتمالك نفسه بالاستعانة بالتوراة، و"التذكير" بما كان يسعى إليه "الملك داوود"، وأنه "ها قد حققنا حلمه". وبالطبع، من يستعين بالتاريخ مسكون بفكرة "أنا المُختار لأنفذ وعداً توراتياً قديماً". هكذا بدا نتنياهو في حينه.
ربما قد تكون التوراة ملهمةً لترامب أو نتنياهو، ولكن من يعتبر نفسه "مختاراً" يبدو في الواقع في قمة أزمته. لا أحد يمكن أن يعتبر نفسه هكذا، ويكون في كامل وعيه، أو في كامل قواه العقلية. أمثال هؤلاء هم ضحايا التفكير الزائد أو الاهتمام الزائد أو شعورهم الدائم بعدم وجود من يعارضهم. هذا الأمر يصنع من أمثال هؤلاء "المُختارين" أنصاف آلهة. لا يرتكبون الأخطاء، ورأيهم دائماً صحيح. إنها مشكلة عانت منها البشرية، إذ لطالما سعى من خَلَفَ مؤسسي الأديان إلى التمثّل بهم، والضغط على الناس على قاعدة "نحن مثل الأنبياء كلامنا مُطاع، ونحن مختارون".
لم يأتِ ترامب بجديد. أمثاله موجودون في كل مكان، غير أن صدى ما يفعله ويقوله أكبر بكثير من زميلنا في العمل الذي يظنّ أن الدنيا تقف عند قدميه، أو جارنا في المبنى الذي يعتقد أن في وسعه الهيمنة على مواقف للسيارات من دون رادع، أو صديقنا الذي يريد فرض رأيه في كل مشروع اجتماعي. ذهنية "أنا المُختار" ركيزة أساسية في عالم وهمي، يصنعه كل فردٍ وفقاً لترددات البيئة الاجتماعية. وفي لحظة ما، يتخطى الحدّ الفاصل بين الوعي والجنون أو عدم القدرة على التمييز بين العقلانية والوهم. وحين يتمّ تجاوز هذا الحدّ، يُصبح صعباً اقتناع المتلقّين بما يقوله. إنه نوع نرجسي من جنون العظمة. وهل يُمكن لأيٍّ كان أن يقتنع بكلام لمجنون عظمة؟
لا يشبه من يظن نفسه "مختاراً" في حالة ترامب فيلم "ماتريكس"، الذي يحكي في أجزائه الثلاثة عن "مختارٍ" محدّد لإنقاذ البشرية من استعباد الآلات والذكاء الاصطناعي. في الفيلم، "المُختار" شخص ذكي وواعٍ، ويسعى إلى البحث عن أجوبة محدّدة لتساؤلاته الكثيرة. أما ترامب وأمثاله، فأقرب إلى فردٍ يسعى إلى فرض نفسه بناءً على ما قدّمه إليه المجتمع، لا على ما قدّمه للمجتمع.
قد تكون البشرية في حاجةٍ، أكثر من أي وقتٍ مضى، للخروج من عقلية "أنا المُختار" لمصلحة "المجموعة"، العاملة وفقاً لمنظومة موحّدة وهدفٍ مشترك. أمثال هذه المجموعات تسمح بالاستفادة من حرية كل فرد وتوظيفها لمصلحة الهدف المشترك، فتغلق الأبواب أمام مجنون عظمةٍ ما، وتسمح بترجمة الأفكار إلى واقع. ولا يُمكن، بعد ألوف السنين من التطوّر البشري، أن يُسمح لشخصٍ مثل ترامب وأمثاله، أن يحاكي الكوكب على قاعدة "أنا هو الحلّ". الحلّ لم يكن فردياً في أي يومٍ. اسألوا هتلر وستالين وبونابرت.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".