بلطجة ترامب

بلطجة ترامب

23 اغسطس 2019
+ الخط -
يمارس الرئيس الأميركي دونالد ترامب السياسة كبلطجي. تكاد وقاحته في التحريض ضد مواطنيه والمهاجرين، وتوصيفاته التحقيرية والعنصرية، لا تتوقف. صوّب أحدث سهام انتقاداته نحو اليهود الأميركيين، معتبراً أن من يصوّت منهم للديمقراطيين "إما يظهر جهلاً تاماً أو خيانة عظمى"، قبل أن يحاول تدارك خطئه، مستعرضاً "بطولاته" من أجل إسرائيل، واصفاً نفسه بأنه "أكثر رئيس ساعدها".
ما يقوم به الرئيس الأميركي في الداخل لا يختلف كثيراً عن سلوكه تجاه حلفائه الدوليين المفترضين. يقارب كل قضايا السياسة الخارجية من اعتقادٍ راسخ لديه بأنه لا بد له أن يخرج منتصراً، سواء تطلب منه ذلك ترهيباً أو ترغيباً، وإن كان أكثر ميلاً إلى ابتزاز حلفائه، ومهادنة خصومه الأقوياء في مقابل محاولة سحق الضعفاء.
لازمة "ادفعوا لنا لأننا نحميكم" التي قالها لأكثر من دولة خليجية، وردّدها على مسامع حلفائه في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حاول تكرارها أخيراً مع الدنمارك بصيغةٍ مختلفة. لم يرد هذه المرّة أموالاً يتباهى بأنه حصّلها أمام قاعدته الانتخابية، بل طلب شراء جزيرة غرينلاند، أكبر جزيرة في العالم، لحسابات عسكرية وسياسية واقتصادية عدة.
ترامب الذي أذعنت له دول خليجية، وقدمت له المليارات تلو المليارات، لنيل رضاه وعدم إغضابه والحفاظ على حمايته، لم يحتمل أن تصدّه كوبنهاغن كما تعاملت مع محاولات أميركية سابقة، فأراد معاقبتها سريعاً عبر إرجاء (عملياً إلغاء) زيارته إليها، تاركاً لمسؤولي إدارته محاولة احتواء الإهانة التي وجهها إليها.
مقابل هذا التحقير للحلفاء، يبدو ترامب أكثر ليناً مع أعدائه المفترضين، تحديداً ممن يدرك قوتهم، أو على الأقل قدرتهم على تحدّيه، والصمود في وجهه. لم يدم الصوت المرتفع تجاه كوريا الشمالية طويلاً. تسير المفاوضات بين البلدين ببطء، حتى أنّ ترامب نفسه تحول إلى مدافع أول عن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، ولا يرى أمراً جللاً في بعض تجاربه الصاروخية أو في حضور قمة أخرى معه من دون تحضير كافٍ، غير آبه بكل آراء المسؤولين في محيطه.
ما يكشف عنه تباعاً بشأن ما يجري مع الحكومة الفنزويلية مثال آخر. خلف التهديدات والعقوبات، تبيّن أن الطرفين، وباعتراف ترامب والرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، يجريان مفاوضات منذ نحو شهرين. التصعيد في الملف الإيراني رُسمت حدودُه مبكراً. لا مواجهة عسكرية مباشرة طالما أن الجميع ملتزمٌ بعدم تجاوز الخطوط الحمراء التي تفرض ردّاً بانتظار بلورة تفاهماتٍ تسمح بالعودة إلى طاولة المفاوضات، ولو بعيد حين.
يسير ترامب على مبدأين أساسيين: لا شيء يمنحه من دون مقابل، والمكاسب بالنسبة إليه هي التي يظهر مفعولها على المدى القصير (حدود ولايته الثانية المفترضة التي تنتهي في 2024 إذا ما فاز في الانتخابات المقبلة)، ويمكن تصريفها في سوق رفع الشعبية قبل انتخابات 2020.
قد يبدو أن ترامب يناقض في ذلك استراتيجيته التي قادته إلى الحكم، وهو الذي صبر على ذلك عقودا، ولم يقدم على الترشح إلا عندما ضمن أن لديه ما يكفي من الحظوظ للوصول إلى البيت الأبيض. لكن ذلك يظهر منطقياً طالما أن ترامب يدرك أن بقاءه لن يدوم لأكثر من أربع سنوات مقبلة. وهنا تحديداً يبدو أن ترامب قادر على التخلي عن عقلية التاجر المهووس الذي يقامر بكل شيء، فقط لأنه يريد أن يكون لديه البرج التجاري الأطول، والكازينو الأضخم، متجاهلاً الكلفة والخسائر قبل أن يجد نفسه، متأخراً، مضطراً للإقرار بالمأزق والتعامل معه والتخلي عما ظنّ أنه كسبه. ما يقوم به ترامب في عالم السياسة ثبت أنه غير مجدٍ، بل مدمّر، لكنه ينتظر أيضاً لحظة الاعتراف بذلك.
جمانة فرحات
جمانة فرحات
جمانة فرحات
صحافية لبنانية. رئيسة القسم السياسي في "العربي الجديد". عملت في عدة صحف ومواقع ودوريات لبنانية وعربية تعنى بالعلاقات الدولية وشؤون اللاجئين في المنطقة العربية.
جمانة فرحات