نساء من البيت العبّاسي

نساء من البيت العبّاسي

22 اغسطس 2019

(جاذبية سري)

+ الخط -
كن بمقياس زمانهن بالمقارنة مع ما نراه الآن من كراهيةٍ ومقت للغرباء، حتى في أوروبا نفسها، أكثر مودّة وجرأة وظرفا وتأدّبا وحديثا. بالطبع ليس هذا في مجمل أهل زمانهن، ولكنها طبقة من نساء البيوت الحاكمة في الدولة العباسية، سردت لنا سيرهن كتب التراث (حتى في بداياتها الأولى)، تجعلنا نميل إلى إنصاف الذات، ذاتنا، على الرغم من الجلْد الذي أدمنّاه لأنفسنا، فهل الجلدُ ناتج من الخيبات السياسية والعسكرية التي توالت على البلاد والبيت العباسي، خصوصا في ما بعد؟ وهل لامتدادات الدولة العباسية واختلاطها بالأعراق، بعد ازدياد الفتوحات واتساع رقعة الدولة، وخصوصا شرقا إلى بلاد فارس وما وراء النهرين وأواسط آسيا كان له الفضل مع ازدياد التوثيق للسرديات في أثناء فتح البلدان واختلاطهن بحضاراتٍ جديدة أقل احتفاءً بالثأر في بطون الجزيرة العربية ومكائدها الموروثة، وذلك مع لطف المناخ بالطبع، وهناءة العيش هناك، كلها قد تكون مدخلاتٍ مهمة للرؤية. 
ولا ننسى أن حَبْر العائلة (بفتح الحاء)، عبدالله بن عباس، كان له النصيب الأوفر من العلم والذوق والاقتراب من الحضارات الفارسية، وارتكانه إلى الوسطية ما بين المتخاصمين في أثناء معمعمة الدماء ما بين أولاد العمومة في بني هاشم، وخصوصا ما بين عليّ كرّم الله وجهه وذريته، وما بين معاوية ويزيد ومن جاء بعده، فمال بعلمه إلى لين المواقف.
وهل كان لبيوت أمراء العباسيين والخلفاء المفتوحة للشعراء والمتأدّبين والمحدثين والبلغاء وأهل المرح وحفّاظ الشعر والنوادر والكتب، وازدياد العاطفة ما بين الجواري والزوجات بعد فاصل من الدم ما بين ذرية علي وذرية زياد استمر قرابة نصف قرن. كانت الخيزران وكأنها لم تكن أمّ اثنين من خلفاء المسلمين، ولا وكأنها جارية من المولدين في اليمن تم بيعها، ولا كانت كأنها حاكمة في بيت خلافة وتركت أهلها، ثم جاءت بهم بعدما أعلمت الخليفة بوجودهم، فأحضرهم جميعا إكراما ومودّة لها، حتى إن الخليفة نفسه تزوج بأختها فيما بعد.
كانت الخيزران منارة أنثوية آتية من اليمن، تشبه بلقيس بجمالها، مع أنها كانت رفيعة الساقين، فمن أغرى كتّاب السيرة بوصف سيقانها الرفيعة، مع أنها كانت مصونا في بيت خليفة، ولا تذهب إلا لرحلة الحج في هودجها المغطَّى بالحرير والمخمل؟
هل كتب السيرة أشد لطفا وواقعية من كلام الفقهاء في بلاد العرب؟ حقيقة، هذا ما تقوله الكتب، حتى وإن أنكرناه إلى آخر القرون. ملكت الخيزران المال والجمال والحكم في بيت خليفة. انتقل إليها العز صاغرا من بيوت بني أميّة، وكأنها مال إليها من غير تعب، هل لأنها ستلد، كما بشّرت، خليفتين من خلفاء المسلمين؟ أم لأن الدنيا جادت على جارية، وحينما تجود الدنيا يبيض حتى الديك على رأس الوتد؟
سيقف راصد الجمال طويلا ومندهشا أمام جمال المخزوميات، بعدما انطلق عطرهن وجمالهن من بقايا دولة بني أمية إلى بدايات الدولة العباسية، ومن قبلها بالطبع، أولاد عم في المحبة وعلى موائد العشق إن جادت البيداء بالشعر والغناء، وحينما يتسع القلب بالجود والكرم والسماحة، وأعداء ألدّاء أيضا في السياسة وفي خلع الخواتم أن جفّ البئر أو خطفت الإبل، أو تنافرت تأويلات المصحف، ونصيب المرأة الجميلة جاهز في المهر بعدما يجف الدم ويتصالح الأحفاد.
الكتب تتبع أذيال النساء، وتقتفي آثارهن من قبيلة إلى أخرى، لمعة السيف خلف الهودج منتبهة لذئاب الصحراء، وكتّاب السير في الطرق المتناثرة ما بين اليمن والحجاز والكوفة والبصرة حتى تخوم الشام تعرف اصطياد السير من داخل حرير الهوادج. والمرأة شفوقة كبئر ماء في الصحراء، والمعارك منصوبة حول أي مغنم والسيوف تلمع، والشعراء هناك يسجلون البطولات في السير، وكل جميلة وحظها، مرّة تصير أرملة إن جار عليها الزمان، ومرّة تملأ صرتها بالمال، الآن يحارب الصغار أوهاما من دون أن يمسكوا سيفا، ومن دون أن تكون جميلة في الصحراء قد أطلت لشجاعته من هودجها، فيا حسرة على كتّاب السير، ويا حسرة على الكتب.