عن ألغاز بغداد وأحاجيها المحيّرة

عن ألغاز بغداد وأحاجيها المحيّرة

21 اغسطس 2019
+ الخط -
منذ سقوط بغداد بيد الأميركيين، ومخبروها لا يتأبطون شرورا فحسب، إنما يتأبطون ألغازا وأحاجي محيرة، تتناسل على مدار الساعة، وتحتاج أكثر من واحد في براعة أرسين لوبين وذكائه، كي يفكّها ويكشف خباياها، وله القدرة على مواجهة شياطين الشر التي صنعتها. جديد هذه الألغاز ما تعرّضت له مخازن السلاح في معسكر للحشد الشعبي من انفجارات متوالية، سببت الهلع والذعر لدى سكان المنطقة المحيطة. وزعم مسؤولون أن سوء تخزين العتاد كان السبب في الواقعة التي أدّت إلى إصابة عشرات بينهم قتيل، لكن ما هو مستور انكشف لاحقا، فقد تواترت تقارير موثقة عن استهداف المعسكر من جهة خارجية بواسطة طائرة مسيّرة، ورجّحت شخصية سياسية على صلة بالتيار الصدري أن يكون القصد "تدمير أسلحةٍ من نوع غير عادي، وضعتها دولة جارة في عهدة العراق كأمانة". وما لبث مركز إسرائيلي مختص أن بق البحصة، بتعبير أشقائنا اللبنانيين، إذ نشر صورا لقصف المعسكر المذكور، التقطتها الأقمار الصناعية، لكن اللغز ظل يتناسل ألغازا: كيف سمح العراق لدولة جارة أن تنقل أسلحة قد تكون محظورةً إلى أراضيه، وأن تضعها وسط منطقةٍ آهلةٍ بالسكان، وكيف وافق على أن تكون تلك الأسلحة أمانةً عنده، ثم كيف دخلت طائرة مسيرة إلى أجوائه، وفعلت فعلتها من دون أن تواجه ردّا؟ وفي أضعف الإيمان من دون أن ترصد، وهل عرف المسؤولون المعنيون بكل تلك الملابسات مع أن تصريحاتهم عن الواقعة أظهرت جهلهم بحقيقة ما حدث؟
ومن لغز إلى لغز، فقد تم الكشف عن دفن 31 جثة (ارتفع العدد في روايات لاحقة إلى أكثر من مئتين على وجبات، بعضها مقطّعة الأوصال)، بينهم أطفال ونساء وشيوخ بدون التحقق من هوياتهم، وتردّد أنها تعود لمختطفين أو مغيبين من مكوّن معين، استهدفتهم مليشيات وقحة، كما وصفها مرة مقتدى الصدر، وأُريد لها أن تدفن سرا، لولا أن الفضيحة انكشفت بفعل من رأى ومن سمع. وقيل إن الجثث ليست نتيجة واقعة واحدة، إنما عدة وقائع، وفي مناطق مختلفة من البلاد، لكن أحدا لم يعرف من هو القاتل ومن هو القتيل، وكيف أقدمت منظمةٌ تدّعي فعل الخير على دفن الجثث "وفق السياقات القانونية والشرعية" كما قالت، وهل هي تملك التخويل القانوني لفعلٍ كهذا، ومن خوّلها بذلك؟ أما كانت "السياقات" إياها تفرض السعي إلى تحديد هويات المغدورين، وإجراء الفحوص الطبية اللازمة لإثبات ذلك، ثم هل سمح لذوي المغيبين والمفقودين معاينة الجثث، لعلهم يجدون من يخصّهم بينها؟
تداعت كل هذه الأسئلة في أذهان من رأى ومن سمع. ولكن يبدو أن هناك من أجابهم أن 
اضربوا رؤوسكم بالحيطان.. أو انصرفوا!
وإلى لغز آخر، أو قل إنه ثالثة الأثافي، فقد ألقي القبض على حجي حمزة، المعروف لدى الجميع بموقعه المتقدّم في "الحشد الشعبي"، والمرتبط بعلاقاتٍ واسعةٍ مع جهات سياسية ذات سلطة ونفوذ، وكذا مراجع دينية معلومة، سبق أن كرّمته بمنحه سيف الامام علي، تقديرا لخدماته (!).
فتح القبض على حجّي حمزة باب الألغاز والأحاجي على مصراعيه، خصوصا بعدما اكتشف الجميع أنه زعيم مافيا تدير منطقةً في قلب العاصمة، يطلق عليها لاس فيغاس، وتحت إدارته صالات قمار وأماكن دعارة وتجارة مخدرات واتجار بالبشر. وظهر أنه يموّل جهات متنفذة بملايين الدولارات من عائد تجارته في مقابل حمايته وتجنيبه الملاحقة القانونية. وقد دفع هذا كله كثيرين إلى الاعتقاد بأن القبض عليه واحتمال تقديمه إلى القضاء يجري في إطار التنافس والصراع بين مليشيات ومافيات لها حول وطول، ويتبادر إلى الذهن أن ألغازا وأحاجي أخرى أكثر خطورةً على البلاد وأهلها قد تلحق بلغز حجي حمزة، لكن ما سوف يظل غامضا إلى حين، هو معرفة كيف تسنّى لهذا "الحجي" أن يمارس كل هذه الأعمال الشيطانية، سنوات عدة، من دون أن تلتفت إليه الأجهزة الأمنية أو القضائية، ومن هي الجهات التي تسترت عليه، ومنحته الحماية، ومن يضمن ألا يكون هناك "حجّاج" آخرون ما زالوا يصولون ويجولون، وليس ثمّة من يقول لهم: "على عينك حاجب"!
هذه مجرّد عينات من كومة ألغاز وأحاجٍ أنتجتها "العملية السياسية" الشرّيرة التي جاء بها الأميركيون، واستثمرها الإيرانيون. العراقيون وحدهم من خسر الرهان، وقد باتوا ينتظرون "المهدي" الذي يأتي ولا يأتي.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"