الدولة ما بعد العولمة

الدولة ما بعد العولمة

20 اغسطس 2019

(Getty)

+ الخط -
يختلف تعريف الدولة وتحديد تركيبتها ومهامها، من مدرسة فكرية إلى أخرى، بينما يسهل تحديد سماتها وخصائصها العامة زمانيا، كتصاعد دور الدولة الخارجي، خصوصا العسكري، وقياس قوتها بحجم انتصاراتها العسكرية والمساحات أو الدول والمناطق التي تحتلها؛ أو من تعاظم دورها الاجتماعي، وقياس فاعليتها بمدى قدرتها على تلبية حاجات مواطنيها اليومية. بكل الأحوال، للدولة أشكال مختلفة، وإن هيمن أحد أنماطها ثقافيا وسياسيا على عقول وأهداف شرائح واسعة من البشر، انعكاسا لمدى تطور الدول الخاضعة لسيطرة هذا النمط، وقوة هذه الدول ومثاليتها. ومنها هيمنة معايير الحرية الفكرية والتجارية والإنسانية، في مقابل انحسار شبه مطلق لجميع مراكز الهيمنة والسيطرة والتحكم، وفي مقدمها الدولة بمفهومها الماركسي أو الاجتماعي أو النيوليبرالي أو حتى التاريخي، في المرحلة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي وانتشار المنجزات العلمية والتقنية الثورية، كالإنترنت، والحاسوب، والقفزة الكبيرة في عالم الاتصالات والبث الفضائي.
إذ تنبأ كثيرون بأفول الدولة وانحسار قواها وقدراتها التحكمية الأمنية داخليا، والعسكرية خارجيا، والاقتصادية والثقافية كذلك، على ضوء سهولة نقل المعلومة والخبر، وحتى السلعة والبشر نسبيا؛ متجاوزين قيودا لغوية واحتكارية وأمنية كثيرة كانت تتحكم فيها الدولة الوطنية داخل حدود سيطرتها الفعلية، من خلال الخطاب الإعلامي والنهج الثقافي، بشقيه الاجتماعي والعلمي، وحجم وطبيعة السلع المتداولة ومصدرها وأولوياتها، خصوصا في الدول المركزية والاستبدادية، فقد ساهم الإنترنت في تعميم المعلومة من دون قيد أو شرط، كما عمّم الثقافة الاستهلاكية والاجتماعية، وكأنه عصا سحرية قد أزالت قيود البعد الجغرافي والحدود وهيمنة الدولة، وهو ما سوف ينعكس في تعميم نمط اقتصادي وسياسي واحد وأوحد، وهو النمط الغربي الأميركي تحديداً؛ القائم على تقليص دور الدولة وقوتها لصالح تسهيل حرية السلع والبشر والأفكار وحركتها، من دون أي عوامل كبح أو تحكّم، حتى يفرز ويفاضل السوق 
المادي والفكري والسياسي جميع المنتجات المعروضة، ليطرح السيئة منها، وتسود المنتجات التي تفيد البشرية جمعاء، ومنها الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
لكن ونتيجة جملة من الأسباب، تحوّل المستقبل، أو ما كان ينظر إليه، في بدايات خطاب العولمة كمستقبل، إلى واقع مغاير تماما عمّا تم ترويجه؛ أي الواقع الذي نعيشه اليوم؛ ويمكن الجزم بأن صورة الواقع الحالي قطريا وعالميا لا تتطابق مع أيٍّ من التي رسمها مروّجو العولمة، أو حتى المشككون بها، بل يمكن القول إننا أمام واقع يناقض الصورة الثقافية المتخيلة في نواحٍ كثيرة. يمكن اعتباره عولمة متضخمة في قدراتها التوجيهية والتحكمية، تشكل الدولة القوية فيها عنصرا أساسيا لا يمكن تجاوزه بسهولة، على النقيض من الصورة المعمّمة تاريخيا، كما ذكرنا سالفا، فبدلا من تراجع قوة الدولة وقدراتها، نشهد اليوم نموها وتعاظمها، أمنيا وسياسيا واقتصاديا، من المركز المتحضّر إلى الأطراف الأقل تحضّرا وحداثة، فالشواهد على ذلك كثيرةٌ، خصوصا أمنيا، من دعم الديكتاتوريات والنظم المستبدة والإجرامية دوليا، عبر مدّها بالتقنيات الأمنية والعسكرية اللازمة، لكبح النضال الاجتماعي وأسر المجتمع عموما، أو عبر الصمت عن مجمل الجرائم الجماعية المرتكبة بحق الشعوب، في تجاهل متعمد لمحاسبة الجناة، وهو ما تشهده منطقتنا العربية للأسف. بالإضافة إلى تزايد وتيرة وحدة وفجاجة جرائم الدولة بحق بعض معارضيها في الخارج، كجريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي وتقطيعه داخل سفارة بلاده في إسطنبول، وتسميم رجل الاستخبارات الروسي السابق سكريبال بغاز 
الأعصاب داخل الأراضي البريطانية، والتي يتهم النظام الروسي بها، وقصص وجرائم عديدة مرتكبة بحق صحافيين ونشطاء سياسيين داخل دولهم الأم وخارجها. وهو ما يعبر عن تصاعد قوة الدول الطرفية الاستبدادية ووحشيتها.
بالتوازي مع تعاظم دور الدولة الأمني في المركز المتحضر أيضا، وإن اختلفت الطرق والوسائل عبر القوانين التي تكبح حرية التعبير عن الرأي، والحق في الحصول على المعلومة، فضلاً عن الحرية الشخصية عموما، كالقوانين التي أقرت في أعقاب تفجيرات "11 سبتمبر"، من تشريع مراقبة وتسجيل الاتصالات الشخصية والمعاملات الإلكترونية، وصولاً إلى محاربة التسريبات الحكومية، كملاحقة مصادر التقارير الإعلامية ومحاكمتها؛ والمواقع الإلكترونية المعنية بنشر الوثائق السرية، خصوصا التي تعني المواطن، مثل موقع ويكيليكس. وصولا إلى تصاعد القيود المفروضة على حرية النشر الإلكتروني، عبر حظر المواقع والمعلومات وملاحقة الناشرين أفراداً ومؤسسات ومحاسبتهم، إضافة إلى استخدام الخوارزميات الحاسوبية في مراقبة توجهات (وتفضيلات) المواطنين عموما، لأغراض اقتصادية ظاهرا، من دون التقليل من أهميتها، وأمنية غالبا. من دون أن نغفل عن تزايد تجارة برامج المراقبة الإلكترونية وتقنياتها، حتى الصوتية منها على الصعيد الدولي، والتي لا يخفى على أحد أنها تقنياتٌ متطورة، تمتلكها وتصنعها الدول المتطورة، كي تستخدمها داخل حدودها الوطنية وخارجها، وتتربح من بيعها للنظم والدول الاستبدادية الشمولية التي تستخدمها في تعقّب معارضيها، وقتلهم غالباً.
في المحصلة، تضخمت أدوار الدولة الرقابية والأمنية على المستوى العالمي، ووصلت إلى مرحلة نشهد فيها مجاهرة بهذه الممارسات، وكأننا أمام تعريف ودور عالمي جديد للدولة والسلطة الحاكمة، لم تكتمل أبعاده بعد، خصوصا اقتصاديا. مع إمكانية ملاحظة بعض سماته الاقتصادية، كانحسار المنافسة وتزايد المركزية والاحتكار والتخصص الذي يخدم، في النهاية، مصالح بعض الدول ظاهريا، وقائمة أغنى أغنياء العالم تحديداً، ما يمركز الصناعات المتطورة والأساسية بأيد قليلة، ويمنحها القدرة والصلاحية على استغلال دول العالم الثالث، عبر استثمارات مالية وسياحية، ونهب ثرواتها الطبيعية، وتحويلها إلى دول ذات إنتاج واحد؛ إن وجد؛ خاضعة لسيطرة الشركات الاحتكارية العالمية الكبرى، عبر أدواتها المحلية المسيطرة على الدولة، أي النظم المافيوية.
قد يكون مبكرا اليوم استخلاص خصائص نمط الدولة السائد وتحديدها، على اعتبار أننا نشهد مرحلة تكوينه وتشكيله، إلا أن ملاحظة بعض هذه السمات منذ الآن يكتسب أهمية كبيرة، خصوصا في ظل تصاعد نضال الشعوب وحركيتها، وتعدد أشكال مواجهتها داخليا ودوليا، عبر دعم قوى الإجرام والاستبداد الداخلي بالتوازي مع دعم قوى الثورة المضادة علنا وعلى المكشوف. الأمر الذي يتطلب تسليط الضوء على هذه الظاهرة، لأهميتها الكبيرة وتأثيرها السلبي على قدرة الشعوب في بناء مستقبلٍ يليق بها وبنضالها، ويلبي تطلعاتها المشروعة، من دون أن ندّعي أننا قد أوفيناها حقها بالتحليل والتدقيق العلمي الذي تتطلبه.