ضحية محترمة

ضحية محترمة

18 اغسطس 2019
+ الخط -
منذ رأى الحمَل العربيّ الصغير طقس ذبح أبيه الخروف، قبل سنوات، وهو يشعر بغضب شديد في أحشائه، وأضمر في نفسه أن يقود ثورةً عندما يكبر، لوقف ما سمّاه بـ"هذه المهزلة". 
في ذلك الصباح المصطبغ بالأحمر القاني، لم يكن يبدو على الحمل أيّ تأثر، عندما ودعهم أبوهم على باب الحظيرة، فالأمر بالنسبة إليه كان اعتياديًّا، على غرار أبيه نفسه الذي غادر الحظيرة كأنه ذاهب إلى وظيفته بوصفه "ضحية"، وهي وظيفة معلومة التفاصيل، فكل ما عليه أن يسلم قياده للجزار الذي يجرّه بحبلٍ إلى حيث المذبح. وهناك عليه أن يستجيب بطواعية حينما يطلب منه أن يستلقي بكامل جسده على الأرض، ولا يبدي أي تبرّم إذا تأخر الجزار في سنّ سكينه، ثمّ أن يمطّ رقبته، ويستقبل مصيره طائعًا راضيًا، ومنسجمًا مع شروط وظيفته التي كان يأكل منها تبنه وشعيره أعواما. وعليه أن يكون ممتنًّا للجزار الذي يُحسب له أنه أطعمه وسقاه، وأتاح له أن يعيش إلى هذه اللحظة، ولا بأس لو شكره على فيض العطايا تلك، قبل أن تنشب السكين في عنقه، على قاعدة أن من "لا يشكر الجزّار لا يستحقّ الشعير".
مرّت متوالية الذبح أمام الحمَل، وهو مستند إلى سور الحظيرة الخشبيّ بسعادةٍ بالغة، فأبوه الخروف يؤدي عمله بإخلاص بالغ كضحية، وشاهد نافورة الدماء الشاخب تندفع من عروقه، وجسده يرتعش، ثم انتهى كل شيء، بعد أن همد الجسد، وهيّأ الحمل نفسه للاستدارة والعودة إلى أقرانه الحملان لاستكمال لعبهم، غير أنه سرعان ما تسمّر في موضعه، وتصاعد الغضب إلى قرنيه الغضّين، حين لمح الجزار يمسح سكينه من الدم بصوف أبيه الضحيّة. في تلك اللحظة، شعر الحمَل باستفزازٍ لم يعهده من قبل في عروقه، وأحسّ أنّ هذه الحركة، تحديدًا، تعبّر عن استخفاف مريع بالضحية، فماذا يخسر الجزّار، لو كان يحمل بيده خرقة قماش ينظف بها سكينه، أليس ثمّة احترام لـ"الضحية" التي أدّت دورها كاملًا بوفاء وإخلاص للجزار؟
منذ تلك اللحظة، طلّق الحَمل النوم، وأصابه أرقٌ فادح، وراح يخطّط لثورته المقبلة على الجزّارين كلهم، واضعًا نصب عينيه هدفًا لا حيدة عنه: "احترام الضحية"، وتجنّب مسح السكاكين بأجسادها بعد الذبح؛ فبدأ بأقرانه الصغار؛ لأنه كان على قناعةٍ بأن كبار الخراف ربما يعدّون هذا الأمر جزءًا من "وظيفتهم" أيضًا، ولا يقلّل ذلك من احترامهم وهيبتهم، بعد أن آمنوا قبل ذلك بمقولةٍ أقنعهم بها الجزّارون: "لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها".
وعقب رحلة إقناع مضنية، التفّ الحملان حول قائد ثورتهم، وبدأ التخطيط لتنظيم تظاهراتٍ عارمة في أرجاء الحظائر عندما تكبر، لوقف "المهزلة"، وهو ما تمّ بالفعل؛ إذ لم تكد تمضي سنتان على حادثة المسح، حتى فوجئ الجزارون بهذا التمرّد، ورفض الخراف التوجه إلى المذابح، ما لم يكفّوا عن مسح سكاكينهم بصوف الضحايا.
بالطبع، بوغت الجزّارون بهذا التمرّد الذي لم يحسبوا له حسابًا من قبل، وهو ما يعني توقف عملهم. ولكن روعهم سرعان ما هدأ، حين عرفوا مطلب الخراف، ثمّ راحوا يقهقهون بإفراط حين سمعوا مصطلح "احترام الضحية"، وما كان منهم غير أن عقدوا اجتماعًا عاجلًا لم تستغرق مداولاته إلا بضع دقائق، وخرجوا بإعلان الموافقة الفورية على مطلب الخراف، بل وزادوا على ذلك أن يضيفوا إلى الضحية لقب "المحترمة"، حين يُنادى عليها إلى المذبح، وأكّدوا أن هذا الطقس الجديد سيبدأ العمل به اعتبارًا من هذه اللحظة، وستكون أول ضحية "محترمة" ذلك الحمل الذي قاد ثورة الخراف نفسه، للتدليل على صدق نياتهم.
أما قائد المطلب إياه، فقد شوهد في صبيحة اليوم التالي وهو يمضي متبخترًا إلى المذبح، بعد أن سمع النداء: "الضحية المحترمة رقم واحد إلى المذبح".

دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.