شيء عن الترجمة

شيء عن الترجمة

17 اغسطس 2019
+ الخط -
هناك قصيدة مشهورة للشاعر الفرنسي، إيف بونفوا، ترجمت إلى اللغة العربية عدة مرات، مثل معظم قصائد بونفوا. ترجم أدونيس القصيدة في أعمال الشاعر الكاملة بعنوان "في خديعة العتبة"، بينما ترجمها بول شاوول، (يترجمان عن الفرنسية)، بعنوان "وهم العتبة". وفي العربية هناك فرق كبير بين الخديعة والوهم، فالأولى فعل خارجي يمارس وسيلة على الآخر، بينما الوهم فعل ذاتي يحدث نتيجة تشوّه يصيب الحواس. هذا حسب التعريف النفسي للمصطلحين. وعلى الرغم من أن الفروق في ترجمتي القصيدة نفسها لا تكاد تكون كبيرة، إلا أن العنوان المختلف يكشف كيف أن المترجم يترك جزءا من شخصيته هو في النص الذي يترجمه، ويحمّل النص بعضا من ثقافته وعلاقته النفسية باللغة. 
لهذا يقولون إن الترجمة، خصوصا في الشعر، إعادة كتابة للنص الشعري. ولهذا أيضا قد نقرأ ديوانا مترجما لشاعر مشهور، ولا نستطيع أن نلمس أهميته، ولا اكتشاف كيمياء الشعر عنده، فلا يكفي أن يكون المترجم متمكّنا من اللغة التي يترجم منها، أو من اللغة العربية، بل يجب، ومن المهم، أن تكون بينه وبين اللغة علاقة ثقافية بالمعنيين، النفسي والبنيوي، وأن يكون قادرا على فهم النص الشعري بلغته الأصلية بحساسية عالية، مشابهةٍ لحساسية علاقته بلغته العربية، بكل اتساعها وتشعباتها وجمالها، حتى يتمكّن من نقل كيمياء الشعر بآلية تلقيه لها للقارئ العربي. لهذا أكثر من ينجح في نقل تلك الحساسية الشعرية هم الشعراء حين يصبحون مترجمين، وفي نفس الوقت هم أكثر من يتدخل في النص الشعري المترجم، إذ لا يمكن للشاعر أن يخفي نرجسيته الشعرية أثناء ترجمته لقصيدة شاعر آخر، سوف يضع في النص الشعري المترجم شيئا منه، من لغته وأسلوبه وطريقته في الأداء الشعري التي تبعده عن الحيادية في عملية النقل من لغةٍ إلى أخرى. في الشعر خصوصا، والأدب عموما، ليس من المفضل أن يكون المترجم حياديا. الحياد ينتج نصا باردا، الأدب يحتاج لغة حارّة ونابضة، كي يكون ممتعا وحيا دائما.
قالت صديقة، عن الكاتبة الأميركية توني موريسون الراحلة قبل أيام: لو قرأتِها بالإنكليزية لاكتشفت أنها أكثر أهميةً بكثير مما يعرف عنها العرب. يقال هذا أيضا عن ماركيز وعن إيزابيل الليندي. وفي الحقيقة يقال هذا عن كل الأدب: حين تتم قراءته بلغته الأصلية ثمّة ما يختلف، وهو ما يؤكّد أن الترجمة فعل كتابة أخرى للنص الأدبي تحديدا، وهو ما لا ينطبق بالضرورة على الكتب الفلسفية أو الفكرية أو العلمية، فهي أصلا مكتوبة بلغة عقلية أو علمية محايدة، بعيدة كل البعد عن الخيال. يجب أن تكون ترجمتها مشابهة لها. لا ينفع معها استخدام اللغة الإنشائية أو الشاعرية، مثلما لا ينفع استخدام اللغة المفرغة من الخيال في ترجمة الأدب.
بدأت بقراءة رواية سمعت كثيرا عن جمالها وأهميتها بلغتها الأصلية، وبلغات أخرى ترجمت إليها. لم أستطع الاستمرار في قراءتها. شعرت كما لو أنني أقرأ تقريرا صحافيا بلغة تقريرية باردة، بعيدة عن العاطفة أو التشويق أو السلاسة التي يجب أن تميز لغة السرد الأدبي. قرأت أيضا إحدى الترجمات لقصائد يانيس ريتسوس. لم تصبني القراءة بالرعشة التي أصاب بها حين أقرأ ريتسوس كالمعتاد. كنت أقرأ لغة باردة وميتة للقصائد، كما لو أن المترجم استخدم الترجمة الحرفية للنص. لم تتم الترجمة عن اللغة اليونانية، بل عن لغة وسيطة، غالبا هي الإنكليزية، وهي المستخدمة غالبا لدى المترجمين العرب في ترجمة معظم الأدب العالمي، إذا استثنينا الفرنسي والروسي منذ زمن، وبعض اللغات الأوروبية حديثا.
من سوء حظي أنني لست من هواة تعلّم اللغات الأخرى، ولم أهتم يوما بأن أحسّن لغتي الإنكليزية إلى حد القدرة على الاستمتاع بالقراءة من دون أن يعيق الاسترسال في المتعة والقراءة استعصاء لغوي ما. وهي، على ما أظن، مشكلة جيلي والأجيال التي سبقت جيلي عموما في سورية، حيث لم يكن تعلّم اللغات الأخرى مهماً. كانت القومية العربية طاغية إلى حد اتهام كل من يتقن لغة أخرى بالعمالة للمستعمرين، أو بالاستعلاء على اللغة الأم. ما فوّت على أجيال من السوريين فرصا هائلة لمعرفة ما يدور في العالم، على المستوى الثقافي والأدبي والإنساني عموما. وهو ما تداركته الأجيال الجديدة التي ساعدها التطور التقني المعلوماتي على أن تصبح عابرة للغة، وخرجت من ثقل الإيديولوجيا لصالح خفة العولمة بكل ما في ذلك من سلبيات وإيجابيات.

دلالات

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.