روسيا ـ بوتين: الرجل المريض؟

روسيا ـ بوتين: الرجل المريض؟

17 اغسطس 2019
+ الخط -
لو كانت روسيا شخصاً حقيقياً، لكنا شاهدنا جسماً مليئاً بالكدمات والضربات، جرّاء ما حصل في الأسبوعين الماضيين، من انفجارات مخازن الأسلحة والحرائق في سيبيريا والانفجار النووي في قاعدة نونوكسا، وصولاً إلى التظاهرات الشعبية الرافضة لمنع 60 مرشحاً من الترشح لانتخابات موسكو في 8 سبتمبر/أيلول المقبل. لا يعني ذلك حكماً أن الروس على شفير الانهيار، بقدر ما يعني أن رحلة التذكير بثمانينات يائسة، وتسعينات كئيبة، كفيلة بإعادة الكرملين إلى الواقع. منذ عام 1999، حاول الرئيس فلاديمير بوتين ترسيخ عاملين أساسيين في روسيا: إعادة الهيبة السوفييتية إلى روسيا الفتيّة، وإبراز نفسه صانع سياسات ومحاور باسم سوقَي الطاقة والسلاح، ضمن نهج "عالم متعدد الأقطاب". ربما يدرك بوتين أن روسيا ليست الولايات المتحدة. في روسيا الشخص هو مصدر السلطات، منذ زمن القياصرة إلى الحكم الشيوعي وصولاً إلى بوتين نفسه، رجل الاستخبارات الذي يجمع بين التفكير الأحادي والنزعة الرأسمالية، على الرغم من رفضه مفهوم الليبرالية. وفي أي مكان يكون الشخص مصدر السلطات، يبقى الرهان على أن المنظومة الدولتية التي ينتمي إليها هذا الشخص معرّضة للتحوّلات الفجائية، سواء الناجمة عن وفاته مثلاً، أو التي لا تُواجه بحلول مؤسساتية وقانونية، كما يحصل في الفترة الأخيرة. في المقابل، النظام الأميركي منيع ويحمي كل قرار يتخذه أي شخص يحكم البيت الأبيض. يكفي القول إن رئيساً مثل دونالد ترامب هو بقوة فرانكلين روزفلت. الرئيسان تمتعا بقوة النظام الأميركي، لفرض هيمنة الولايات المتحدة في العالم. وكل من سيخلف ترامب، سواء في عام 2020 أو في عام 2024، سيتمتع بالخاصيّة نفسها.
لم تخرج روسيا من نظام القائد ـ الشخص، ولم تتمكّن من معالجة ترهّل الداخل المجتمعي، وتحويله إلى قوة دافعة مؤسساتية. ربما قد يكون هدف المعارضين الذين نظّموا التظاهرات الأخيرة تحقيق مفهوم الدولة، غير أن ذلك لا يجد صدىً كافياً في المجتمع الروسي عموماً، الذي تبدو فيه الأرياف والمناطق البعيدة عن التجمّعات الاقنصادية ـ الديمغرافية مؤيدةً لزعامة الفرد، على عكس موسكو وسان بطرسبرغ، في إشكالية مستمرة منذ كان الكاتب ليو تولستوي حياً.
يمكن ببساطةٍ توقع مستقبل محدّد لروسيا ما بعد بوتين، وهو مستقبلٌ مليء بالفوضى السياسية التي لن تكون، بطبيعة الحال، مماثلة للتسعينات أيام بوريس يلتسين، لكنها ستكون كافيةً لتقول روسيا: "الأولوية للداخل". وهذا ما يعني انكفاءً عن التمدّد العسكري والسياسي في العالم، مع المحافظة على الاتفاقات الاقتصادية المعقودة. وغنيٌّ عن التعريف أن النموّ الديمغرافي أيضاً كان من أبرز العوامل المساهمة في تعزيز القوة الروسية ـ السوفييتية، غير أنه في السنوات والعقود المقبلة لن يخدم روسيا إطلاقاً، بفعل انخفاض معدّلات الإنجاب الذي يستولد نقصاً في القوة البشرية العاملة، في مقابل عدم انتشار الآلات بشكل كافٍ، لتعويض هذا النقص.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الفوضى العالمية حالياً في سياق غياب "القطب الأحادي" أو "نظام القطبين" ستؤدي إلى تكريس عشوائي لمفهوم "تعدّد الأقطاب" من دون ناظم حقيقي للعلاقات الدولية، مع تحوّل الأمم المتحدة إلى جمعية خيرية فقط من دون قدرةٍ فعليةٍ على سنّ القوانين، وإصدار القرارات وتطبيقها، المرتكزة حالياً على التوافق الأممي أو عامل الوقت. في هذه الفوضى، ستتراجع روسيا ما بعد بوتين خطواتٍ إلى الوراء، وستترك فراغاً يُفترض أن يملأه الأميركي فقط، على اعتبار أن الصين لا تسعى بالأساس إلى أداء دور هجومي توسّعي بالمعنى التقليدي أو السياسي. الصين قد تكون ساعيةً إلى التحوّل إلى أكبر قوة اقتصادية عرفها التاريخ، لكنها في الوقت عينه لا يناسبها نظام مشابه لنظامها الداخلي في الكوكب، وإلا فإن الخسائر الاقتصادية ستكون أفدح من زلزال الكساد العالمي عام 1929. الثابت أنه حتى نهاية عهد بوتين (عام 2024 مبدئياً)، ستتوالى الضربات على روسيا.

دلالات

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".