بين العلم والدين.. أين تقع المصادفة؟

بين العلم والدين.. أين تقع المصادفة؟

17 اغسطس 2019
+ الخط -
إحدى أبرز الزوايا في جدالات العلم والدين الأزلية في العالم العربي، مصطلح المصادفة أو العشوائية. كيف تجرؤون على القول إن التطور أو قوانين الكون تحكمها المصادفة؟ هناك مشكلة في تعريف المفهوم أصلا، نشأت من الخلط بين عالمين منفصلين. المصادفة بالمفهوم الفلسفي معناها العبث واللاغاية ومقابلها القصدية، لا علاقة لها بمفهوم المصادفة في العلم التجريبي، وخلاصته هو ما لا يمكن التنبؤ به، ومقابله ما يمكن التنبؤ به. 
لنذهب إلى مثال بسيط جداً: لو أن القارئ الكريم خرج من منزله غدا صباحا، فتعثر بحجر في الطريق، فكُسرت قدمه. بالعلم التجريبي هذه مصادفة، بمعنى أنه علميا لا يمكن التنبؤ بها إلا واحدا من احتمالات، بينما في الدين ما حدث هو قَدَر.
العلم التجريبي يمكنه أن يحسب احتمالات وجود حجر في هذا المكان، سرعة السقوط، كيفية علاج القدم المكسورة.. إلخ، لكن لأنه لا يمكنه الجزم يقيناً أن فلاناً ستُكسر قدمه في هذه اللحظة والمكان، فهذه تظل بمفهومه مصادفة. في المقابل، ليس سؤال القصدية مطروحاً أصلا، فكيف يمكن أن تجد دليلاً مادياً أن الله هو من قدّر أن يتعثر الشخص بالحجر؟
مثال آخر: عدد الحيوانات المنوية في القذفة الواحدة قد يتجاوز مائة مليون، واحد منها فقط هو من سيخترق جدار البويضة، لتمثل المادة الوراثية كل ما يخص هذا المولود، شكله ولون شعره وطوله والأمراض المعرّض للإصابة بها.. إلخ.
بالعلم التجريبي، هذه مصادفة، بمعنى أنه لا يمكننا معرفة الحيوان المنوي الذي سيخترق البويضة، وهذا لا يتعارض قط مع الإيمان الغيبي بأن الله قدّر لهذا الطفل حياته كلها في اللوح المحفوظ.
هذا المبحث شبيه بسؤال الجبرية والقدرية الذي خاض فيه علماء الفقه والكلام الإسلامي مطولاً، ولكن هذا بالطبع كان على المستوى الفلسفي والعقيدي، ولا علاقة له بالمعامل. من يحاولون إخضاع العلم التجريبي للدين يتحولون في الواقع إلى محاولة إخضاع الدين للعلم، يخلقون تناقضاً غير موجود، ثم يغرقون في الملحمة حولها. ثم إن هذا الربط المتعسّف سيصل إلى محطات مغلقة، وإلا كيف تجيبون بدون غيب على أسئلة من قبيل: كيف أنجبت مريم العذراء بلا أب؟ هذا علميا مستحيل. أرونا دليلكم العلمي على أن حولنا كائنات ترانا وتؤثر في سلوكنا، مثل الجن والشياطين والملائكة. من زاوية أخرى، لا إجابات من الطرفين على أسئلة البداية الأولى. أسئلة ماذا قبل الانفجار الكبير؟ ماذا قبل الزمكان والجاذبية؟ يحيلها العلم التجريبي إلى جدالات فلسفية.
لماذا نهتم بكل هذا الجدل؟ الحقيقة أن الغيرة على العلوم البحتة هي آخر ما يهم كل من شهر قلمه وصوته للمعركة، ذلك كله غطاء لصراع أكبر. للوجه الأول ببساطة الصراع على السلطة. أدوات السلطة المعنوية على وعي الشعوب لا تقل أهمية عن أدوات السلطة المادية. لعقودٍ، هيمنت الأنظمة المستبدة سياسيا، بينما هيمن مخيال تيارات الإسلام السياسي شعبيا، وليس بالضرورة أن يكون ذلك بخطاب سياسي مباشر. لذلك حين بدأ التغيّر بوجود أصوات مختلفة، ومنصات مختلفة، لها حضور شعبي حقيقي عن قناعةٍ لا إجبار، خصوصا بين الشباب، حتى لو لم يكن المحتوى سياسيا، ظهر على الفور الارتباك والتخبط رد فعل لهذا الوضع غير المعهود من فقدان السلطة المعنوية.
الجانب الثاني من هذه المعركة أنه صراع لتحديد شكل المنظومة العقلية الحاكمة لمجتمعاتنا العربية، فهناك فارق بين منظومةٍ تقدّس ذاتها وتحتقر علوم الآخر، وتدّعي أن لديها بالفعل ما يغنيها عنه، ومنظومة تقبل الشك في مسلّماتها وتنفتح على الاستفادة والتعلم. ولأن وجهي هذه المعركة يمكن أن يمتد عقودا، فستظهر بين حين وآخر بصور مختلفة، حتى لو كانت على شاكلة فتح ملحمة جديدة ضد شابٍ لم يُبد أي آراء دينية أو سياسية، أكثر من تقديمه برنامج "بوب ساينس".