الدولة العربية الحديثة وغياب النموذج

الدولة العربية الحديثة وغياب النموذج

17 اغسطس 2019
+ الخط -
حين يتأمل أحدنا الواقع الجغرافي لـ "أمة العرب"، يجدها في قلب هذا المدى المترامي المسمّى العالم القديم. وحين يمعن في تاريخ البشرية، يجد امتداد هذه المنطقة عميقاً فيه، ويرى شعوباً متقاربة سكنتها، ويعجب بحضاراتٍ أنشأتها ورعتها، لا يزال العالم ينهل من آدابها فكراً وخيالاً وتصوراتٍ أثْرَت روح إنسانه زمناً طويلاً، ولم تزل تشهد بعقول أولئك الأجداد الذين استطاعوا أن يهدوا العالم بما خلفوه من أفكار عميقة، كان لها مساهمتها في نهضةٍ حديثةٍ، يبدو أنها ماضية بقوة إلى ما يذهل، بما فيها من فوائد تنعش الإنسان بالآمال، وتمدُّ خيال المبدعين بسلالم ومرتكزات لا متناهية. وحين ننظر إلى واقع الأمة اليوم، نراها وافرة الغنى، متعدّدة الثروات والخيرات.. ولديها من إبداع أبنائها علوم وفنون ما يكفي لجعلها غاية في التقدّم والرقي والتحضُّر والسيادة.. ولكنها، وبكل أسف، ليست كذلك، بل هي متخلّفة، مهزومة، يعاني شعبها مرارة الآلام والأحزان والغربة بين الأهل وفي الأوطان.. إضافة إلى تأثيرات الفقر والبطالة والمرض والجهل والخنوع للأجنبي البغيض.
منذ مائة عام وأكثر، اطّلع بعض نبهاء هذه الأمة، ربما مصادفة، على حياة أخرى، ليست بعيدة عن عالمنا الذي نعيش فيه، لكنها حياة أرقى وأبهى وأيسر، فقالوا لِمَ لا نكون نحن كذلك؟ وما الذي ينقصنا؟ إذ نحن الأهل لمثلها، ونحن أصلاً من فعل كذا وكذا.. فخطبوا وخاطبوا، وكتبوا وكاتبوا وحضُّوا بعضهم بعضاً على النهوض والإنهاض ومحاربة المعيقين دروبهما الناهبين خيرات البلاد، المتعاملين مع الأغراب المستغلين الظالمين.
وهكذا ارتفعت الرايات "الوطنية" في شرق الدِّيار وغربها، وباسمها سفكت الدماء، واعتلى كلَّ بلد قاتلٌ اختار لنفسه لقباً واتخذ راية وحاشية. وكما، قبل آلاف السنين، أُسْكِنَتْ روحُ الإله، 
جسد هذا الزعيم الجديد، فمنح نفسه صفة الأبدية والخلود، وقبلهما التميز والتفوق على من حوله والآخرين. وعادت حروب الإكراه والإخضاع والطاعة ليصل معها إلى حدَّ الإفناء، وعاد التخلف أضعافاً. وإلى ذلك، يمضي اليوم اليمن السعيد. وتتبعه سورية الأصالة والعراقة و"وطن الأوطان"، وقبلهما مضى العراق، ولا تزال ليبيا غارقة في الدم والفوضى، وما تبقى، ربما، على طريق الرعب ذاته. ومن خلال ذلك كلّه، تطل ما تسمّى صفقة القرن، ومن جديد يفرض الحال التفكير الأبعد. وتتوالى الأسئلة: لماذا؟ وما العوامل والأسباب؟ وكيف الخروج من النفق..؟
كتب مروان قبلان، في "العربي الجديد" في 20 مارس/آذار 2019، مقالة مهمة عن بناء الدولة العربية واغترابها عن الشعب الذي تمثله، وعن الدولة المعاصرة.. أثارت المقالة شجوناً لدى المهتمين بهذا الجانب الذي له ارتباطٌ لا بالسياسات العربية فحسب، بل بكل شأن من شؤون العرب المعاصرة، فالدولة العربية اليوم التي أشارت إليها المقالة ترتبط بأسماء أفراد وأسر وقبائل ومذاهب وطوائف، ولم تسمَّ بهوية الشعب الذي تمثله، ولا باسمها التاريخي كبقية الدول. ويتفق القارئ مع الكاتب في كثير مما ذهب إليه، إذ صوَّر واقعاً قائماً، وقد قسَّم أنماط الدولة إلى عدة أقسام منها: الدولة "الإقطاعية"، وإن لم يسمِّها، لكنها التي تستمد قوتها من سلطة دينية، وإن أخذت اسم قبيلة أو طائفة ما، وجمعت في ثناياها أقواماً مختلفة. وأشار إلى الدولة التي تتصل بنمط الإنتاج، وإلى الدولة الريعية غير المنتجة كما دول الخليج. وكتب: ".. وهذا النمط من الإنتاج لا يسمح بنشوء علاقة سليمة بين الدولة والمجتمع، أو بروز صيغة تعاقدية، تحقق متطلبات كل طرف واحتياجاته. طبعاً هذه المدرسة لا تفسر لماذا تسلك الأمور الطريق نفسها في الدول غير الريعية في المنطقة العربية، حيث يدفع الناس مثلا ضرائب كثيرة، ويبقون مع ذلك من دون تمثيل، ومن دون مشاركة سياسية، كما هو الحال في سورية ومصر". وأشار إلى وجهة النظر الماركسية في تعريف الدولة: سلطة قمع بيد الطبقات المالكة.. وختم مقالته: "لهذا السبب، قد يكون من الأفضل لنا أن نتحدّث عن دولة عربية غير مكتملة البناء، أو دولة في طور البناء، تواجه صعوباتٍ كثيرة، كما الآخرين، وهي تحاول الانتقال من حالة شبه دولة إلى دولة مكتملة الأركان".
لا خلاف مع مروان قبلان فيما ذهب إليه عن الدولة الريعية، ولا في توصيفه الدولة لدى المفكرين الماركسيين، ولا في واقع الدولة العربية الذاهبة إلى اكتمال أركانها.. ولكن ثمّة ملاحظات تتعلق بكل من سورية ومصر اللتين، فيما أعتقد، لم تغادرا الدولة الريعية منذ قطع حكامهما الطريق الطبيعي لتطور الدولة بتأميم ملكية البرجوازية الوطنية الناهضة آنذاك، والآخذة في اتجاه بناء الدولة القومية، جنباً إلى جنب مع بناء الاقتصاد القائم على الإنتاج 
الحديث المستند إلى الآلة المتطوّرة لا الحرفة التقليدية. وأكثر ما كان قائماً في قطاع النسيج وقطاعات أخرى تلبية لضرورات حياتية لدى المجتمع، وفق النمط الذي حدث في أوروبا الرأسمالية، إذ إن الدولة القومية هي وليدة التشكيلة الاقتصادية الرأسمالية. ولعل الحرب العالمية الأولى كانت حرب الرأسمالية مجتمعة، على الرغم من بعض تناقضاتها، على بقايا قلاع الإقطاعية في العالم، ومنها الإمبراطورية العثمانية، بينما كانت الحرب العالمية الثانية بين الدول الرأسمالية ذاتها، ولأجل تقاسم مناطق النفوذ، حيث الأسواق والمواد الخام في العالم.
وإذا كان التأميم في كل من سورية ومصر قد جاء، في جوهره، دعماً للدولة الناشئة، وبتأثير من الثورة البلشفية، ولتوفير السيولة اللازمة، ودعماً للعاملين في الدولة التي حكمت باسمهم، واستندت إلى دعمهم.. فإنه عمل، من جهة أخرى، على تخلُّف الاقتصاد بشكل عام، إذ غادر الرأسمال مجال الإنتاج الفعلي الذي يجعل المادة الخام سلعةً إلى اقتصاد طفيلي (ريعي)، يقوم على التجارة والسمسرة في العقارات والسيارات، ويعمل وكيلاً لدى الشركات الأجنبية. وقد امتد تأميم الاقتصاد، ليشمل الفكر السياسي وأحزابه والجمعيات الثقافية والاجتماعية ووسائل الإعلام، وغابت بنية الدولة بوصفها مؤسساتٍ لتحل محلها الأجهزة الأمنية، والجيوش التي التهمت الإنتاج الضعيف، كقطاعات طفيلية أيضاً، ولهذا كله لم تستطع الدولة "الانتقال من حالة شبه دولة إلى دولة مكتملة الأركان".
هشاشة الاقتصاد الذي دمرته البرجوازية الطفيلية، وسطوة الديكتاتورية التي تورّمت بالشعارات، أفشلت بناء الدولة النموذج، أعني الدولة المقاربة في بنيتها للدول المعاصرة، القائمة على أسس من الديمقراطية وتداول السلطة والاحتكام إلى القانون، والقابلة، في النهاية، لتكون نقطة جذب لبقية الدول العربية، كما أنَّ الهجوم على تلك الدول للشعارات التي ترفعها فحسب، من الدول الريعية الكبرى، مالكة الثروات أو المتصرّفة بها كان أكبر مما يتصوَّر، إذ خشيت على نفسها من أن تصبح بنيتها عرضةً للاهتزاز. ولعلنا لمسنا ذلك بوضوح أكبر من خلال تجليات الربيع العربي، إذ سرعان ما تنبهت تلك الدول الريعية إلى ما قد ينجم عنه من دول معاصرة، قد تؤثر عليها على المدى البعيد.. وهذا ما حدث لسورية على نحو أو آخر، لكنه تجلى بوضوح أكبر في السودان، إذ مالت دول إقليمية ريعية باتجاه المجلس العسكري الانتقالي، خشيةً من أن تؤسس "قوى الحرية والتغيير" الدولة المنشودة. وأخيراً، وعلى الرغم من كل ما حصل ويحصل، إننا ماضون باتجاه استكمال بنية الدولة المعاصرة. وما نشهده، على الرغم من المعاناة والدم والخراب، إرهاصات لتلك الدولة المنشودة.
1D1ED1EA-2F95-436E-9B0D-9EA13686FACD
محمود الوهب

كاتب وصحفي وقاص سوري، له عدد من المؤلفات والمجموعات القصصية