المغرب.. هذا الحصاد في عشرين عاماً

المغرب.. هذا الحصاد في عشرين عاماً

02 اغسطس 2019
+ الخط -
شهدت العشرون سنة التي أمضاها ملك المغرب، محمد السادس، في العرش، مبادرات واستراتيجيات وخططا وبرامج غيّرت الملامح العامة للمملكة، بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء، ما مكّن المغرب من تقديم نفسه دولة نموذجية، نجحت في اختبار منهجها الخاص بالإصلاح والتغيير، في سياق عربي وإقليمي مضطرب يفتقد البوصلة. وكان "الانتقال الديمقراطي" شعار السنوات الأولى من فترة حكم الملك الشاب ممزوجا بفيض من المفاهيم الدخيلة على الحقل السياسي المغربي، مثل "المجتمع الديمقراطي الحداثي" و"المفهوم الجديد للسلطة" و"الملكية المواطنة".. حتى اعتقد مغاربة كثيرون أن موعدهم مع التاريخ قد وصل، وأنهم على وشك تكرار سيناريو الملكية البرلمانية في المملكة الإسبانية.
تولت المؤسسة الملكية مهمة تحقيق التغيير المنشود في البلد، معتمدة سياسة الأوراش الكبرى التي شملت كل المجالات؛ من الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حتى السياسي والثقافي والدبلوماسي، مرورا بالديني والرياضي والأمني، فلا يكاد يخلو حقل أو مجال من رؤية ملكية أو استراتيجية وطنية من أجل تدبيره، ما حوّل وزراء الحكومات المتعاقبة (1999 - 2010) إلى مجرّد منفذين للخطط والتعليمات الملكية السامية، كل في مجال اختصاصه.
وقد واصل محمد السادس نهج والده الحسن الثاني مع تجربة التناوب التوافقي، فعمد إلى تعزيز المنظومة التشريعية لضمان تحرير الاقتصاد وانفتاحه، وتعزيز مقومات الحكامة وسيادة القانون، والحرص على ضمان حقوق الإنسان الأساسية، ومنها بالتخصيص حقوق المرأة عن طريق مراجعة قانون الأسرة. وعلى الصعيد المؤسساتي، أحدث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ثم المجلس الاستشاري للشؤون الصحراوية، وكرس إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة العدالة الانتقالية أداة لتقصي الحقيقة وجبر الضرر. وجاءت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والتي تشكل أحد أعمدة النموذج التنموي، لمحاربة الفقر والنهوض بأوضاع الفئات الهشة في المجتمع، من خلال تمويل المشاريع المدرة للدخل ومواكبتها في مختلف جهات المملكة. وقبلها مشروع هيكلة الحقل الديني، بعد اعتداءات الدار البيضاء الدامية في مايو/ أيار 2003، لضبط هذا المجال وتنظيمه، وضمان حماية الأمن الروحي للمغاربة وسلامته.
على الصعيد الاقتصادي، تم تفعيل سياسة المخططات، من قبيل مخطط الإقلاع الصناعي سنة 
2005، ثم الميثاق الوطني للإقلاع الصناعي، فمخطط تسريع التنمية الصناعية، ما شكل خطة متكاملة ترمي إلى إرساء صناعة قوية وتنافسية. ومخطط المغرب الأخضر في القطاع الفلاحي قصد جعل الفلاحة من أولويات القطاعات الاستراتيجية الوطنية، ثم مخطط أليوتيس للصيد البحري، من أجل تثمين الموارد البحرية، وجعل القطاع أكثر تنافسية. في السنة نفسها، اعتمدت الدولة الاستراتيجية الطاقية الوطنية التي أثبتت نجاعتها؛ حيث جعلت المغرب نموذجا يُحتذى به على الصعيدين، الجهوي والقارّي.
استطاع المغرب، مع مرور السنين، أن يجني ثمار هذه السياسات، حيث ضاعف قيمة الثروة الإجمالية للبلد، فانتقلت من 5904 إلى 12833 مليار درهم، وحقق نسبا جديدة في النمو والفقر والأمية.. معزّزا بذلك مكانته قارّيا وعالميا، غير أن وقع هذه الحصيلة على فئة عريضة من المجتمع المغربي كان ضعيفا، ما دفعها إلى الشارع، عند أول هبة لرياح الربيع العربي في فبراير/ شباط 2011.
سارعت المؤسسة الملكية الخطى بمجرد خروج المظاهرات، واستبقت الأحداث بخطاب 9 مارس/ آذار الذي رفعت فيه سقف التطلعات، حين أعلنت عن أول مراجعة للدستور في عهد محمد السادس، قوامها توسيع هامش الحقوق والحريات، وتقوية الطابع المؤسساتي بالتنصيص على هيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية في البلاد. وتم تنظيم انتخاباتٍ تشريعية مبكرة؛ اتسمت بحياد السلطة لأول مرة. وبالموازاة مع ذلك، باشرت الدولة جملة من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية، قصد تسكين الأوضاع بالاستجابة للمطالب الفئوية للمحتجين.
اهتدى النظام إلى تعليق كل خطط السلطوية ومشاريع التحكّم، وعمد في المقابل إلى تبني أسلوب مجاراة التيار، بعدما اكتشف أن كلفة خيار معاكسته باهظة؛ من نتائجها إطاحة أنظمة في المنطقة العربية. ولذلك تفاعلت الدولة بشكل سريع مع الأحداث، فيما اعتبر بمثابة تبنّ رسمي لمطالب المحتجين، معلنة شعار "الإصلاح في ظل الاستقرار" الذي يتوافق مع متغيرات المرحلة، بل وشكل حينها استثناءً في سياق إقليمي ثائر.
بداية من عام 2011، تراجع التركيز على "الحل الاقتصادي"، ليفسح المجال، لأول مرة طوال حكم محمد السادس، للسياسي والسياسة حلا واختيارا، بعد أن طال مسلسل التبخيس وتنفير المواطنين من السياسة، بالحضور القوي والمستمر لرجال الأعمال والتكنوقراط في الحقل السياسي، مع حكومتي إدريس جطو (2002) وعباس الفاسي (2007)، اللتين كانتا أفضل تعبير عن حالة الإفلاس السياسي في المغرب. وقد سعت التجربة السياسية الأولى من نوعها في العهد الجديد، المسنودة بالإرادة الشعبية التي أفرزتها صناديق الاقتراع في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، إلى فرض إصلاحاتٍ جذرية وهيكلية، تقوم على مراجعة تدريجية لمكامن الخلل في أجهزة الدولة، بغرض وضع قواعد جديدة ومنصفة، تساهم في الحد من التفاوتات الاجتماعية. وتسهل عمليات التشحيم في السلم الاجتماعي، مخوّلة الجميع على قدم المساواة آليات الاندماج والترقي الاجتماعي بطرق سلسة ومشروعة. بذلك شكلت أول محاولة لمعالجة المشكل من جذوره، بذل الاكتفاء بتمظهراته التي تزول هنا لتظهر هناك في صور وأشكال جديدة. واستغلت هذه التجربة فرصة توليها مهمة تنزيل دستور 2011، والانحياز لتأويل فراغات المتن الدستوري ديمقراطيا، حتى يكون بمنزلة تعاقد سياسي جديد، يقود البلد نحو الديمقراطية. لكن الدولة العميقة (المخزن) سرعان ما استشعرت خطورة هذا التوجه على مصالحها، فسارعت إلى فرملته بافتعال أزمة حكومة في منتصف الولاية الحكومية (مايو/ أيار 2013)، مستغلة تراجع المد الثوري إقليميا، بعودة القوى المضادة للثورة.
منذ ذلك الحين، والصراع على أشدّه بين المدافعين عن الديمقراطية وأنصار السلطوية، والذي 
اتخذ صورا شتى؛ استعملت فيه المسموح وغير المسموح من الأدوات، لوقف كل مكاسب الربيع العربي وتعليقها، بالتصدّي والعرقلة لتنفيذ بعض مقتضيات الدستور، وكذا بعض السياسات ذات البعد الاجتماعي. وبلغ ذروته بحلول الانتخابات التشريعية، وما تلاه من انسداد حكومي (بلوكاج) أدّى إلى تنحية عبد الإله بنكيران، والاستعاضة عنه بحكومة هجينة بعيدة عن تمثيل نتائج الانتخابات، قريبة لحكومات التعليمات التي ألفها المغاربة، على الرغم من كونها "ملتحية".
ما أكثر من يطالبوننا بالنظر إلى النصف المملوء من الكأس فقط عند كل موعد، فالأهم بالنسبة لهم أن المغرب على الطريق الصحيح، وهو أفضل حالا من عدة دول في المنطقة. هذا الاستنتاج تنفيه أرقام التقارير الدولية التي تضع البلد في ذيل قائمة المؤشرات الدولية؛ التنمية البشرية (123)، حرية الصحافة (135)، مكافحة الفساد (81)، جودة التعليم (138) إلى جانب اليمن. وتنفيه التقارير الوطنية بدورها، إذ لم تنعكس مضاعفة الثروة، بحسب تقرير للمندوبية السامية للتخطيط، على قطاعاتٍ عديدة، فالتربية والتعليم مثلا يسجلان معدلات هدر مدرسي مقلقة في جميع المستويات الدراسية، حيث عرف، بين 1999 و2012، في المتوسط كل سنة، ما يناهز أربعمائة ألف حالة هدر؛ في جميع المستويات. تضاف إلى متوسط سنوي يتجاوز 760 ألف حالة تكرار، أعلى مرتين تقريبا من المتوسط العالمي. وتنطبق الخلاصات نفسها على قطاع التشغيل، حيث انخفض إيجاد فرص الشغل على مستوى الاقتصاد المغربي، من 186 ألف وظيفة في المتوسط سنويا بين 2001 و2008، إلى 70 ألف وظيفة في المتوسط سنويا فقط بين 2008 و2015.
وتساعد هذه الأرقام والمعدلات على إدراك طبيعة ونوعية التغيير الذي كان المغرب سائرا في طريقه طوال العشرين سنة الأخيرة، فإنتاج الثروة، وحتى مضاعفتها، لا يضمنان أبدا التوزيع العادل لها، فوفق تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، يعرف توزيع الثروة في المغرب اختلالا كبيرا، حيث يستهلك 10% من الأغنياء أكثر من 33% من خيرات البلاد؛ أي أن هناك وفرة نسبية في إنتاج الثروة، وفقرا مدقعا في توزيعها؛ أي غياب العدالة الاجتماعية والعدالة المجالية. ما يعني أن ثمار النمو المحقق لا تصل إلى بيوت كل المغاربة، بل إن الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا. وعلى صناع القرار في الدولة أن يكونوا على أهبة الاستعداد لتحمل تبعات هذه الاختيارات، فالقتل الرحيم للسياسة الذي اختاره هؤلاء من بين خيارات أخرى قلما يجود بها التاريخ، أفضى إلى وأد الحلم والأمل الذي راود المغاربة بغد أفضل.
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري