مستقبل المسار الديمقراطي في تونس بعد السبسي

مستقبل المسار الديمقراطي في تونس بعد السبسي

01 اغسطس 2019

صحف تونسية تودّع السبسي (26/7/2019/الأناضول)

+ الخط -
أعلن في تونس يوم 25 تموز/ يوليو 2019 عن وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، بعد وعكة صحية أدخلته المشفى قبل ذلك بشهر. وقد طرح رحيل السبسي، الذي قضى نحو سبعة عقود من حياته في الشأن العام، في لحظةٍ مشحونةٍ بالتجاذبات، وقبل شهرين فقط من استحقاقين انتخابيين كبيرين، تساؤلاتٍ عن مستقبل المسار الديمقراطي في البلاد، وخريطة المشهد السياسي المقبل، وقدرة الفاعلين السياسيين في تونس على المحافظة على الحد الأدنى من التوافقات التي كان للرئيس الراحل دور مهم في التأسيس لها، وأسهمت في حماية المسار الديمقراطي.
الاستحقاق الانتخابي: حسابات السياسة وقواعد القانون
تجاوزت الديمقراطية التونسية وفاة الرئيس بهدوء، وتولى رئيس البرلمان المنصب مؤقتًا، وجرى تقديم موعد الانتخابات. وكانت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات قد شرعت في التحضير لإجراء الانتخابات التشريعية والانتخابات الرئاسية منذ مطلع عام 2019، على أن تجري الأولى في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والثانية في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019. وعلى الرغم من أن أطرافًا سياسية، بينها الجناح الموالي للرئيس الراحل في حزب نداء تونس، أبدت، في أكثر من مناسبة، رغبتها في تأجيل الانتخابات، فإن السبسي حسم الجدل بهذا الشأن، وصدّق على قرار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. ولكن رحيل الرئيس اقتضى تغييرًا في المواعيد، فعملًا بمقتضيات الدستور، يجب إجراء انتخابات رئاسية في موعد أقصاه تسعون يومًا من شغور منصب الرئاسة؛ ما يعني حصولها وجوبًا قبل 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2019. دفع هذا الأمر الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إلى تقديم موعد الانتخابات الرئاسية إلى 15 أيلول/ سبتمبر 2019؛ ما يفرض على المرشّحين تقديم ملفات ترشحهم في الفترة 2 - 9 آب/ أغسطس 2019، أي في أجل عشرة أيام بين إعلان موعد الانتخابات الرئاسية وغلق باب الترشح.
ومع أن رئيس الهيئة قد ساق المبرّرات الدستورية لاختيار هذا التاريخ، فقد ظهرت اعتراضاتٌ على تقديم موعد الانتخابات الرئاسية على التشريعية. هذه الاعتراضات، وإن جاء أغلبها بداعي ضيق الفترة الزمنية وصعوبة استيفاء مختلف الإجراءات المطلوبة قبل موعد التوجه إلى 
الصناديق، فإن الحسابات السياسية كانت حاضرة، بقوة، لدى مختلف الأطراف، فالأحزاب والائتلافات جميعها تدرك أن نتائج الانتخابات الرئاسية ستكون مؤثرة، بدرجاتٍ متفاوتة، في حظوظها في الانتخابات التشريعية، وأن تحديد الحجم الانتخابي لكل طرفٍ يفرض عليه خوض الرئاسيات، وهو خيارٌ يحاول بعض الأطراف المتنافسة تحاشيه، لأسبابٍ مختلفة، فحركة النهضة، على الرغم من حسمها موقفها بأنها لن تكون محايدة، وسيكون لها موقف في الانتخابات الرئاسية، فإنها حافظت، طوال الأشهر الماضية، على قدر من الغموض بشأن طبيعة الموقف، بين تقديم مرشح عنها ودعم مرشح آخر، مع تغليب الخيار الثاني في أغلب تصريحات رئيسها راشد الغنوشي. وتحوز الحركة الكتلة الأكبر في البرلمان، وظلت تتصدر النتائج في أغلب الاستحقاقات الانتخابية، منذ الثورة، لكنّ جناحًا داخلها يتحسّب من الموانع الإقليمية والخطوط الحمراء أمام وصول مرشح عن الحركة، المحسوبة على الإسلام السياسي، إلى منصب الرئاسة. وتدرك حركة النهضة، في ظل تقديم موعد الانتخابات الرئاسية على موعد الانتخابات التشريعية، أن ذهابها في خيار دعم مرشح آخر قد يسهم في تعظيم مكاسب حزبه في الاستحقاق البرلماني على حسابها.
ولا تختلف حسابات الأطراف الأخرى كثيرًا عن حسابات النهضة، وإن تباينت الأسباب والمعطيات، فالأحزاب المنشقة عن "نداء تونس" (حزب الرئيس الراحل)، تدرك أنها تتقدّم إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية في سياقٍ يختلف كثيرًا عن انتخابات 2014؛ إذ إن تشتت التحالف السياسي والانتخابي الذي أوصل الرئيس السبسي إلى منصبه، ومنح حزب نداء تونس الكتلة الأكبر في البرلمان، حينها، يجعل من العسير تكرار التجربة. وعلى الرغم من أن حافظ قائد السبسي (نجل الرئيس الراحل ورئيس الهيئة التسييرية لحزب نداء تونس) ويوسف الشاهد (رئيس الحكومة ورئيس حزب تحيا تونس المنشق عن "نداء تونس") ومحسن مرزوق (رئيس حزب مشروع تونس المنشق، بدوره، عن "نداء تونس")، لم يعلنوا، رسميًا، حتى الآن، ترشحهم للانتخابات الرئاسية، فإن أغلب المؤشرات تدل على أنهم سيكونون ممثلين فيها، إما بترشيح أنفسهم أو بترشيح قياديين من أحزابهم.
ويدرك ورثة الرئيس السبسي وحزب نداء تونس أن التشظّي الذي أصاب الحزب الأم سيؤثر، بدرجاتٍ متفاوتة، في حظوظهم، غير أن حسابات الانتخابات التشريعية تظل عاملًا للدفع في اتجاه خوض غمار الاستحقاق الرئاسي متفرّقين، بينما يظل خيار "التصويت المفيد" لأحد المترشحين قائمًا، منذ الدور الأول، وهو الخيار الذي منح الرئيس الراحل وحزبه التقدّم في انتخابات 2014. وعلى خلاف الأحزاب، يبدو المرشحون المستقلون للرئاسية غير معنيين بحسابات الاستحقاق البرلماني، على نحو مباشر، باستثناء المرشحين المحسوبين على الأحزاب الذين يمكن أن يتقدّموا إلى الانتخابات بصفة مستقلين. ومن المتوقع أن يقدّم مستقلون ملفات ترشحهم إلى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، خصوصا بعد أن منحهم بعض الاستطلاعات، في أوقاتٍ سابقة، مراتب متقدمة. وبصرف النظر عن الجدل القائم بشأن جدية هذه الاستطلاعات، أثبتت نتائج الانتخابات الرئاسية السابقة أن التعويل على حسم السباق الرئاسي لمصلحة مرشح مستقل لا يستند إلى معطيات موضوعية.
وعلى الرغم من إمكانية تواصل الجدل وتصاعده بخصوص التاريخ الذي اقترحته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فإن مبدأ إجرائها، في المدى القريب، يظل خارج الخلاف. وحتى في حال تعديل التاريخ في اتجاه التأجيل، وهو أمر مستبعد لأسباب دستورية وسياسية، فإن ذلك لن يتجاوز أسابيع قليلة، وسيتخذ في إطار توافق عريض. ويمثل الاحترام الكامل للضوابط الدستورية في انتقال السلطة، بعد وفاة السبسي، دافعًا إضافيًا لالتزام هذا المسار إلى نهايته، بما في ذلك إجراء الانتخابات في مواعيدها.
التوافق السياسي: أي مستقبل؟
استثمر الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، في رصيده السياسي والزعاماتي، قبل انتخابات 2014، باعتباره رمزًا وبديلًا حداثيًا من المشروع المحافظ الذي تمثله حركة النهضة، 
المحسوبة على تيار الإسلام السياسي. وساهم هذا الفرز في بلوغ الاستقطاب السياسي في البلاد أقصاه، صيف عام 2013، بالتزامن مع وصول المشاريع الإقليمية إلى ذروتها في محاولة القطع مع مخرجات الربيع العربي، وإعادة إنتاج منظومات الاستبداد في أكثر من قُطر عربي (مصر أساسًا). وقد أدى هذا الاستقطاب دورًا مهمًا في قيام التحالف الواسع الذي أوصله إلى الرئاسة، ولكنّ الرئيس السبسي اختار، منذ تشكيل أول حكومةٍ بعد الانتخابات، الدخول في توافق مع حركة النهضة. وعلى الرغم من أن مشاركة "النهضة" في الحكومات المتعاقبة، منذ 2014، كانت دون وزنها البرلماني، واقتصرت على حقائب من خارج الوزارات السيادية، فإن خيار التوافق، وإن قلّص من حدة الاستقطاب الداخلي، وساهم في استمرار المسار الديمقراطي بهدوء، قد أدّى، من جهة ثانية، إلى تشظّي حزب نداء تونس وانشقاق بعض الرافضين أي شراكة مع "النهضة". أما على المستوى الإقليمي، فسياسة التوافق مع حركة النهضة أدت إلى فتور علاقة الرئيس السابق مع عدد من الحلفاء الإقليميين السابقين الذين دعموا وصوله إلى الرئاسة.
وعلى الرغم من أن التوافق السياسي بين السبسي وحزبه من جهة، والغنوشي وحركة النهضة من جهة أخرى، شهد تراجعًا، خلال الأشهر الأخيرة، في سياق الصراع بين رئيسي الجمهورية والحكومة وانحياز "النهضة" إلى خيار استمرار حكومة يوسف الشاهد بعكس رغبة الرئيس، فإن الطرفين أصرّا على استمرار العلاقة، واستمرت اللقاءات بين السبسي والغنوشي.
ولقد ساهمت شخصية السبسي، بصفته سياسيًا مخضرمًا عاصر نشأة الدولة منذ الاستقلال، وشخصية الغنوشي الذي عايش مواجهات حركته مع نظامي بورقيبة وبن علي، في الحفاظ على قدرٍ من التوافق، وفي تجنيب تونس المآلات التي عرفها أكثر من قُطر عربي، غير أن السياق التونسي، بما في ذلك القانون الانتخابي الذي يصعب، وفقه، حصول أي طرفٍ على أغلبيةٍ تمكّنه من الحكم منفردًا، كان، إلى جانب عوامل أخرى، دافعًا للتوافق السياسي الذي شمل، إلى جانب حركة النهضة أحزابًا أخرى أقل حجمًا.
سيتكرّر هذا الأمر على الأرجح في الانتخابات التشريعية المقبلة، ولن يتمكّن أي طرف من
 حصد أغلبية تمكّنه من تشكيل الحكومة منفردًا. وعليه، سيظل التوافق ضرورةً سياسيةً لا غنى عنها، في المرحلة المقبلة. وهذه من حسنات النظام البرلماني في مراحل التحول؛ إذ لا تتمثل نتيجة الانتخابات برابح وخاسر لجميع الأوراق، بل بقوى تحتاج إلى الائتلاف والمساومة لتشكيل أغلبية. ولكنّ تفاصيل الائتلافات ستكون محكومةً بنتيجة الانتخابات الرئاسية وبالخريطة البرلمانية التي سيفرزها الاستحقاق البرلماني. ويظل تكرار تجربة التوافق بين حركة النهضة والأحزاب المنشقة عن حزب نداء تونس خيارًا ممكنًا، في حال صحّت نتائج الاستطلاعات المنشورة في الأشهر الأخيرة، والتي تمنح هذه الأطراف، مجتمعةً، أكثر من نصف نواب البرلمان المقبل.
ولا يختلف الأمر، مبدئيًا، حتى في حال تشتت أصوات الناخبين بين القوائم المرشحة وإفراز برلمان بكتل صغيرة؛ إذ سيظل التوافق ضرورةً قائمة لتشكيل الحكومة المقبلة، إلا أن هذا الاحتمال قد يساهم في زيادة التجاذبات، ويضعف تجانس الفريق الحكومي؛ وهو الأمر الذي أدى إلى أزماتٍ سابقة في حكومتي الحبيب الصيد (2015 – 2016) ويوسف الشاهد (2016 – 2019). ويُرجَّح تشظي حزب نداء تونس وانقسامه في هذا الاحتمال، فالقوى التي شكلت الحزب الذي تصدّر نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية في سنة 2014، تتقدّم اليوم إلى الاستحقاقين الانتخابيين المقبلين، بعدد كبير من المرشحين ومن القوائم المتنافسة. وقد كشفت نتائج الانتخابات البلدية التي أجريت في أيار/ مايو 2018 أن الانشقاقات المتكرّرة أنهكت الحزب، وقلصت حظوظه، وشتتت أصوات ناخبيه.
خاتمة
في كل الأحوال، ومهما تكن نتائج التصويت في الاستحقاقين الانتخابيين المقبلين، فإن الضرورات القانونية والسياسية تدفع في اتجاه الحفاظ على خيار التوافق، فالقانون الانتخابي القائم على التصويت للقوائم واعتماد أفضل البقايا، يحول دون حصول أي طرفٍ على أغلبية تمكّنه من تشكيل الحكومة، إضافة إلى أن تجربة السنوات الأخيرة سمحت بتجاوز عدد من الأزمات السياسية الصعبة، على الرغم من الظروف الاقتصادية والمعيشية التي تمر بها البلاد، غير أن السؤال الذي يظل قائمًا يتعلق، أساسًا، بالأطراف المعنية بالتوافق في المرحلة المقبلة، وما إذا كانت تجربة الرئيس الراحل وزعيم حركة النهضة ستتكرّر، أم سيكون التوافق المقبل بتفاصيل جديدة وفاعلين مختلفين.