عن وقائع عراقية صادمة

عن وقائع عراقية صادمة

10 يوليو 2019
+ الخط -
يذكر الفيلسوف والروائي الإيطالي الراحل، أمبرتو إيكو، أنه كان قبل ثلاثين عاما في زيارة لجزر فيجي (جنوب المحيط الهادئ)، عندما لفتت نظره صحيفة تصدر هناك، خُيل إليه في حينها أنها أفضل صحيفة في العالم، الصحيفة اسمها "فيجي"، تصدر يوميا في ثماني صفحات بحجم "تابلويد"، تكرس اثنتين منها للأحداث المحلية، واثنتين للأحداث العالمية، وتترك أربع صفحات للإعلانات والتحقيقات مدفوعة الثمن. سر إعجاب إيكو بصحيفة فيجي أنها تقدم الأخبار بحرفية مهنية وموضوعية عالية، لا تلصق بها رأيا لأحد، وتترك للقارئ أن يقرّر موقفه من الوقائع التي تغطيها، إنها صحيفة وقائع، حتى لو كانت تلك الوقائع صادمة ومرّة.
بعد عشرين عاما، ألهمت الحادثة إيكو لكتابة رواية جديدة سماها "العدد صفر"، (ترجمها إلى العربية أحمد الصمعي)، عن مليونير إيطالي يكلف أحد مساعديه بإصدار صحيفة، مهمتها كشف وقائع الفضائح التي تحيط برجال المال والأعمال، وعلاقاتهم المشبوهة بالطبقة السياسية الفاسدة المهيمنة على السلطة، ويختار المساعد مجموعة ممن يعرف من المهتمين بمتابعة الفضائح، وممن لهم صلة بدوائر البوليس، لمعاونته في إصدار الصحيفة، وتبدأ التحضيرات للأعداد صفر، ومعظم فصول الرواية تجري ضمن هذا الإطار، وتستمر الاجتماعات لمناقشة مضامين هذه الأعداد، ومتابعة عصابات تهريب السلاح والمخدرات وتبييض الأموال، ومافيات الجريمة المنظمة والاغتيال. وتخلص الرواية إلى إعلان المليونير إلغاء فكرة الصحيفة من الأساس، وإصابة العاملين بخيبة أمل، لكن وتيرة الفضائح تظل متصاعدة من دون أن يجرؤ أحد على رصد تلك الفضائح، أو الكشف عنها.
هكذا جرى استدعاء رواية أمبرتو إيكو في الذهن على خلفية الأخبار الصادمة التي تتطاير في سماء العراق، والتي تخص فضائح الطبقة السياسية الحاكمة هناك، وأحسب أن إيكو لو كان حيا لفكر في إنشاء رواية جديدة مكملة لروايته "العدد صفر"، وقد يدعو إلى إصدار صحيفة في العراق، تعنى بهذا النمط من الصحافة الهادفة التي لا تسعى إلا إلى كشف الوقائع الحية للجمهور، ومن دون رتوش، حتى لو كانت صادمة ومرّة، تاركة للقارئ أن يحكم بنفسه على ما يقرأه!
أمامي الآن قبضة وقائع عراقية طازجة من هذا النمط عن عراقيين وعراقيات يتعرّضون ويتعرّضن للامتهان والذل، على أيدي قوى مافيوية شرّيرة، أباحت لنفسها كل شيء، من دون وازع من ضمير، وهذه الوقائع التي سيشار هنا إلى بعضها مستلة من تقارير جهاتٍ موضع ثقة، وذات اعتبار.
ثمّة واقعة سجلتها منظمة هيومن رايتس ووتش عن وجود مراكز اعتقال في محافظة نينوى 
الشمالية، مكتظة للغاية، تضم آلاف المعتقلين، بينهم نساء وأطفال وشيوخ، فترات طويلة، وفي ظروفٍ مهينةٍ تتسم بسوء المعاملة، ثلاثة منها لا تزيد طاقتها الاستيعابية عن أكثر من ألفين وخمسمائة شخص، حشر فيها نحو ضعف هذا العدد. وواقعة أخرى نقلتها محطة سي أن أن عن مسؤول الاتجار بالبشر في مفوضية حقوق الإنسان الذي كشف أن مسؤولين رسميين متورّطون في عمليات الاتجار الجنسي بالفتيات، وأن تسمية هؤلاء المسؤولين قد تشكل تهديدا له، لأنهم ذوو سلطة وقوة، وأنه اطلع شخصيا، في العام الماضي، على نحو 150 حالة اتجار جنسي.
وواقعة ثالثة ثبتتها وزارة الخارجية الأميركية، في أحد تقاريرها أخيرا، عن لاجئاتٍ يوضعن في بيوتٍ للدعارة، بدلا من أن ينقلن الى مخيمات، وأن مسؤولين في أجهزة أمنية يحمون القائمين بمثل تلك الأعمال.
وثمّة وقائع صادمة أخرى كثيرة تزخر بها مواقع التواصل ويتداولها العراقيون في مجالسهم، لكن ما هو مثير أن يتجاهل صحافيون وكتاب وقائع صارخة كهذه، ويتجنّبوا الإشارة إليها، خوفا من أن ينالهم غضب من هو ضالع في تلك الوقائع، وهو صاحب سلطة وقوة، كما قال المسؤول في مفوضية حقوق الإنسان.
قد يقال إن مسؤولي السلطة الكبار لا يلتفتون إلى مثل هذه القضايا، لأنهم مشغولون بقضايا أكبر، إذ توشك الحرب أن تطبق على المنطقة، عود ثقاب واحد يكفي لإشعالها! وقد يقال أيضا إن لجانا شكلت، والتحقيقات جارية بخصوص الوقائع المتداولة، لكن الكل يعرف أن مئات اللجان شكلت، طوال الأعوام الستة عشر العجاف الماضية، في قضايا مماثلة، وتحقيقات أجريت على مدى ألف نهار ونهار. ولكن، ما هي النتائج؟ من فضلكم، أعطونا جوابا مسكتا، نكُن لكم من الشاكرين.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"