على خدّه يا ناس "مية وردة"

على خدّه يا ناس "مية وردة"

09 يوليو 2019

عمرو وردة في أولمبياد روسيا (15/6/2018/Getty)

+ الخط -
كان عبد الفتاح السيسي في 2013 نصف إله.. شعبية طاغية، وتصورات أسطورية لدى السواد الأعظم من المصريين أنه حامي الحمى. كانت انتقاداتنا وقتها تعزّز من رواية الدولة عن عمالة شباب الثورة. كنا نحرث البحر. الآن، كل الناس تشتم السيسي في الشوارع، في المواصلات العامة، في المصالح الحكومية، على المقاهي، لم يعد أحد يأمل شيئاً، أو يصدّق.
جاءت بطولة الأمم الأفريقية مصحوبة بدعاية النظام، الذي يربط بين أقدام اللاعبين وأقدار الوطن، لأسبابٍ لا تتعلق بالتصديق. يحب المصريون هذه الأجواء، ربما تكون الكرة أفيون الشعوب. نحتاج، وسط كل هذا الهم والغم والمرار، لما يخدّرنا. نرتضيه رغماً عنا، نبلعه بمزاجنا. بالأخير، كان المصريون يتطلعون إلى بطولةٍ، أيّ بطولة، ينتظرون انتصاراً، أيّ انتصار، ولو على يد فرقة "تعبانة" لا تصلح للفوز بدوري المظاليم. ولكن يبدو أن حاجة السيسي للتغطية على فشله ببطولة كرة قدم لم تكن أقوى من هذا الفشل نفسه، بوصفه مشروع الدولة وخطّتها ومنهجها، فجاء كل شيء، منذ البداية، لصالح هذا الفشل.
انحازت الدولة المصرية، كعادتها، لكل ما يمثل قيم الانحطاط والرداءة والتدنّي الأخلاقي، فيتماهى معها، ويعزّز من وجودها، ويعبر عنها، تراجعت فوراً عن قرار استبعاد اللاعب المتحرّش عمرو وردة، أعادته إلى معسكر المنتخب الذي لم يغادره أصلاً، رغماً عن الجميع، سبقته بدعاية عاطفية عن الستر والدين، وصور وردة في الحرم المكي الذي شاركها على مواقع التواصل واحدٌ من مشايخ الدولة، المتخصصين في تديين الانحطاط. استجابت بعض الجماهير، رفعوا صور وردة، هتفوا له، المتحرّش محمولاً على الأعناق، فيما يقبع في السجون والمعتقلات آلاف الشباب في سنّ وردة، ينتظرون فرصة لوجبة غداء، أو تريّض، أو انتقال من الانفرادي إلى زنزانة مشتركة.
يتصوّر بعضهم أن وردة هو سبب الهزيمة، وأن هزيمتنا عقاب إلهي على انحيازنا له. الحياة ليست عادلة إلى هذا الحدّ، ووردة لم يكن أول وردة في عروة الجاكيت الميري، اتحاد الكرة صورة لمن عيّنه، عصابة من الفاسدين الذين يتقاضون العمولات والسمسرة على شهيق اللاعبين وزفيرهم. مدرب ضعيف بلا تاريخ، هارب من أحكام قضائية في بلاده، يتقاضى رقماً مرعباً، يكفيه ويكفي من جاء به، ويا بخت من نفع واستنفع. تشكيلة كوميدية، تراعي توازنات الفرق وحسابات مصالح الجميع، إلا الجماهير التي تأمل وتتابع، جماهير الكرة في المعتقلات، روابط الألتراس التي كانت تلقي الرعب في قلوب الخصوم، جميعهم في السجون، لأنهم نادوا بحياة شهدائهم. تذاكر الدخول تضاعفت ألف مرة، ولم يعد في مقدور المشجّع أن يدخل، فدخل أصحاب الأجواء الاحتفالية والكرنفالات. ذهبت جماهير محمد أبو تريكة، وجاءت جماهير عمرو دياب، وحتى هؤلاء حرموهم من التشجيع كما يشاؤون، وجعلوا فوق رؤوسهم في كل مدرّج مخبرين للقبض على أي مشجع يهتف لأبو تريكة!
ملعب محاصر بالأمن، بلا جمهور، بلا لاعبين، بلا مدرّب، ثم ننتظر الفوز لأن التنظيم جيد، والأرضيات "باركيه". كانت الدولة حريصة، منذ اللحظة الأولى، أن تبدو في المشهد. السيسي وفقرته الكوميدية في الافتتاح، وزير الدفاع الذي زار الفريق يوم الهزيمة. إعلام النظام الذي لم يكف عن ترويج مخدّرات الفوز قبل البطولة وفي أثنائها، ثم أكمل، في اليوم التالي للهزيمة، حديثه عن مؤامرات خفية عالمية ضد المنتخب ومحمد صلاح، في كل تفصيلة كان يوجد عمرو وردة، في كل خطوة نحو البطولة وفي أثنائها. حياتنا كلها اليوم عمرو وردة، وردة في الاتحادية، في الأزهر، في الكنيسة، على الشاشات، في الماء والهواء، ولذلك سامحوه، فالكل يرى فيه نفسه، وردة يمثلهم. أما نحن فلا أحد يشبهنا في هذه الخرابة، فمتى نتوقف عن انتظار أي شيءٍ من هذا البلد، أو له. واحدٌ ممن كانوا يشاهدون المباراة معي ارتفع ضغطه، ناشدته الله أن يهدأ، ظلّ يتحدّث عن مصر وتاريخها، واللعبة التي أحبها منذ طفولته، ويسأل لماذا؟ فأجيبه: من أجل وردة.