امتثال اضطراري

امتثال اضطراري

08 يوليو 2019

المدرج الروماني ومشهد من عمّان (30/1/2019/Getty)

+ الخط -
أعلنت تمرّدي، بعد امتثال اضطراري دام خمسة أيام بليالها، لأوامر الطبيب الصارمة بضرورة الراحة التامة، والتقيد بقائمة ممنوعاتٍ من شأنها أن تحيل الحياة إلى جحيمٍ، يزيد من بؤسه ارتداء عنق بلاستيكي، على الرغم من الحر الشديد، للحيلولة دون وقوع مزيد من الأضرار في العنق المصابة، وقد وصفها الطبيب أضراراً جسيمة، إضافة إلى تناول كميات من العقاقير المسكّنة من ذوات العيار الثقيل التي تسبب غثياناً مستديماً، وكآبةً لا مثيل لها. من أجل ذلك، كان التمرّد في صبيحة يوم السبت، وفي ساعة مبكرة، مشروعاً، بل ومطلباً إنسانياً، فتحت باب السيارة، خارقة أول بند في قائمة الممنوعات، والذي يشدّد على عدم القيادة تحت أي ظرف، وحتى الشفاء التام. وما أن شغّلت محرّك السيارة التي عانت من الهجران، حتى انطلق صوت فيروز من "الراديو"، مردّدا أغنية "وحدن بيبقو متل زهر البيلسان". أخذت أدندن الكلمات الحزينة، وأنا أحرّك رأسي بصعوبة عند الالتفاف. اتجهت مبتهجة بالشوارع الخالية إلى جبل القلعة، حيث معبد هرقل رابض فوق أعلى تلةٍ تطل على المدينة. 
بدت عمّان في ذلك الصباح أكثر جمالا، وقد استعادت وداعتها، والتقطت أنفاسها المثقلة بفعل أزمات السير الخانقة في ليالي الصيف، حيث تكتظ الأماكن، ويعلو صوت الأبواق لسياراتٍ يقودها أناسٌ لا يتمتعون بفضيلة الصبر. تعافت إلى حين من الضجيج والصخب الصيفي المفتعل، مهرجانات، حفلات توقيع كتب لا يقرأها أحد، ملتقيات، ندوات، محاضرات، مناظرات تلفزيونية تتناول الشؤون المحلية، حفلات أعراس لا تخلو من إطلاق أعيرة نارية، مواكب خرّيجين لم يُدركوا بعد قتامة المستقبل الذي يتربّص بهم، اعتصامات ومظاهرات ومسيرات تندّد بصفقة القرن، وغلاء الأسعار وتردّي الخدمات العامة، على الرغم من الضرائب الباهظة. ابتعت فنجان قهوة من كشك صغير، زبائنه من الفقراء المتعبين غير القادرين على ارتياد مقاهٍ فارهة، يسمّونها في عمّان قهوة الشارع زهيدة الثمن، والألذ مذاقاً بالنسبة للعارفين بشؤون البن.
اقتنع حارس الموقع الأثري الذي لا يفتح أبوابه للسياح قبل التاسعة بأني لا أشكل خطراً على السلامة العامة، فمظهري الخارجي لا يوحي إلا بامرأة عادية، تعاني من الضجر، ويعتريها شوقٌ مبهم إلى رائحة الأماكن العتيقة، فسمح لي بالدخول تجاوزاً. هتف قلبي على طريقة محمود درويش، "هذا الصباح لي"، صامتا نقيا بريئا خاليا من كل أشكال الادعاء. أحسست بالامتنان لقناة يوتيوب التي أتاحت لي اصطحاب أسمهان. أيقظتها من مرقدها الطويل. استغللت خلو المكان، وأطلقت العنان لصوتها السماوي يصدح عاليا بأغنية "يا طيور.."، مجسّدة فكرة البلاغة بأقل الكلمات، وبإحساس موسيقي شديد الندرة، عصيّ على التكرار، وهي تردّد بصوتٍ شجيّ، وبحزنها النبيل المترفع "يا طيور غني حبي وانشدي وجدي وامالي للي جنبي واللي شايف ما جر لي".
تذكّرت كم أحب تلك المرأة المعذبة التي اختطفها موتٌ مبكّر وملتبس. وعدتُ نفسي بزيارة قبرها في زيارتي المقبلة للقاهرة. سأجلس طويلا عند قبر الأميرة النائمة التي لم يطوها النسيان. قد أخبرها عن كابوس الليلة الفائتة، حين اقتادني رجلٌ غريبٌ إلى قبرٍ شيّد حديثا في بقعةٍ نائيةٍ مظلمة. تمكّنت من قراءة اسمي على الشاهد، مكتوبا بالأسود بخط واضح، وخطأ إملائي لم يجر تصحيحه في الوثائق الرسمية، مذيلا بتوقيعي المعتمد في البنك. قال الرجل، مبهم الملامح، بلهجةٍ شامتة: هذا قبرك الذي سوف ترقدين فيه قريبا، لأن روحك مصابةٌ بسرطانٍ لا شفاء منه. استيقظت وقد تملكّني رعبٌ شديدٌ. وقبل أن أتمكّن من إخباره بأن الروح لا تُصاب بالسرطان، لكنها قد تصاب بالوهن، جرّاء الخذلان وخيبة الأمل، نهضت المدينة من نومها، علت أصوات أبواق السيارات وصفارات شرطة المرور. عدت أدراجي، وقد أخذت نصيبي كاملا من نهارٍ لم تعد بقيته تعنيني.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.