مهاجرون لا بواكي لهم

مهاجرون لا بواكي لهم

07 يوليو 2019
+ الخط -
أحيا العالم، قبل أيام، اليوم العالمي للاجئين، في سياقٍ مؤشّر لا يدل على تراجع أعدادهم، أو تحسّن أوضاعهم، بل تؤكد كل المعطيات والمؤشرات، خلاف ذلك، زيادة أعداد هؤلاء في السنوات الأخيرة، بحكم موجات الحروب الأهلية التي مزقت أكثر من بلد، علاوة على الكوارث والجوائح الطبيعية. وكذلك ظهور سياساتٍ متشدّدة تحاصرهم، وتضع آلاف الأسيجة التي تمنعهم من الهروب، بحثا عن مناطق آمنة. تحتضن دول أكثر من ثلاثة أرباع هؤلاء، في حين تظل البلدان المتقدمة مكتفية بالفرجة والمساعدات الهزيلة، وثرثرة كثير من الخطاب الإنساني المنافق.
نتج عن كل هذه الموجات الفارة من جحيم الاضطهاد والحروب والكوارث الطبيعية، اختلاط تدفقات تلك الموجات البشرية المتنقلة، رغما عنها، فلم يعد من اليسير فرز المهاجرين غير الشرعيين عن اللاجئين، فكلهم ضحايا، قد يمر الواحد منهم بكل تلك الصفات، فهو مهاجر غير شرعي مدة مؤقتة، يتحول بعدها إلى لاجئ.. إلخ. ويحدث هذا في أمكنة عديدة: غربي آسيا والشرق الأوسط وحوض المتوسط وأميركا اللاتينية وغيرها. ولكن ظل البحر المتوسط أبرز حالة على الديناميات المختلفة لتلك التدفقات، فهو الحوض الذي تصب فيه كل تلك الموجات البشرية المنكسرة على موج هادر وبوابات مغلقة بالحديد والرصاص. تتوسط هذا البحر ثلاث قارات، بينها فوارق اقتصادية صارخة، ففي حين ينعم شماله بالرخاء الاقتصادي والاستقرار 
السياسي، ظل جنوبه يعاني من أزمات اقتصادية حادة، علاوة على حروب أهلية تمزق بلدانه.
إذا لم تأت الخيرات يزحف إليها الرجال طوعا أو كرها. هذه الحكمة التي ظلت ترددها الشعوب انطبقت على بلدان الجنوب وشعوبه خصوصا. سنويا يقصد مئات آلاف الأشخاص، أفرادا وجماعات، البلدان الأوروبية، سالكين طرقا برية وعرة، حتى إذا وصلوا إلى دول شمال أفريقيا، امتطوا قوارب الموت ليعبروا البحر. كانت هذه الرحلة إلى سنة 2010 محفوفة بالمخاطر، لا محالة، لكنها منذ تلك السنة، وبالتزامن مع اندلاع موجات الثورات العربية، أصبحت مغامرة قاتلة. نسب النجاة ضعيفة، فالطريق أصبح مرعبا، يشق بلدانا تمزقها حروب أهلية وتستوطنها شبكات إرهابية، وكل أنواع الجريمة الدولية: السودان، مالي، النيجر، ليبيا، كلها تحولت حواجز قاتلة.
يسقط كثيرون من هؤلاء المهاجرين فريسة سهلة، قبل وصولهم إلى شواطئ العبور في شمال أفريقيا لشبكات المتاجرة بالبشر، حيث يتم استغلالهم، وهو الذي لا رادع له، في ظل ضعف تلك الدول، وانهيار أجهزتها الأمنية، وتنامي نفوذ شبكات الجريمة. وقد نقلت تحقيقات صحافية من الأكثر موضوعية ومهنية، مئات الحكايات الحزينة والمؤلمة عن استعباد المهاجرين، وبيعهم رقيقا في المزاد العلني، كما نقلت لنا صوراً مروّعة عن تعذيبهم وقتلهم بكل عبث وقسوة، علاوة على قصص الموت المفاجئ الناجم عن ألغام ورصاص طائش قصف أحلامهم البسيطة.
مع تشدّد سياسات الهجرة خلال السنوات الأخيرة في دول الاتحاد الأوروبي، والتي كان من نتائجها منع إرساء سفن الإنقاذ التي تنظمها منظمات غير حكومية عديدة في موانئ هذه الدول، فضلا عن تقليص الميزانية المعتمدة لتيسير عمليات الإنقاذ الإنسانية في عرض المتوسط، تحوّل هذا البحر إلى مقبرة مائية عائمة، إذ يبتلع سنويا ما يزيد عن أربعة آلاف، حسب منظمات الإغاثة الدولية، على الرغم مما تثيره هذه الأعداد من التباساتٍ تخص دقتها. وبقطع النظر عن دقة هذه الإحصائيات، لا يكاد يمر يوم من دون أن تنقل إلينا وسائل الإعلام الدولية والوطنية حوادث غرق المهاجرين الفارّين من جحيم الحرب والخصاصة في أفريقيا وغيرها.
كانت ليبيا إلى سنوات قريبة من حكم العقيد معمر القذافي دولة تستقبل أكثر من ثلاثة ملايين مهاجر أفريقي، لم تكن أوضاعهم حسنة، فقد كانت حقوق المهاجرين غير محترمة في دولةٍ لا تعترف بحقوق الإنسان أصلا، وتعتبرها مؤامرة غربية، علاوة على كثير من الدعائية، 
واستثمار قضيتهم في ابتزاز بلدانهم، وحتى أوروبا ذاتها، والعقيد هو من قال إن ليبيا غير مستعدة أن تلعب دور الشرطي. ولكن قد تكون وضعية المهاجرين تلك، على تعاستها، أفضل مما يعانون منه حاليا في بلد انهارت فيه سلطة الدولة التي استولت عليها مليشيات وعصابات تستعملهم عادة مرتزقة أو "عبيدا". إنهم بين كماشة الإخوة الأعداء.
القصف الذي نال، قبل أيام، مركز إيقافهم في تاجوراء، في ظروف غير إنسانية، وفي خرقٍ للقوانين المتعلقة بحقوق المهاجرين، مهما كانت وضعيتهم، يبرهن مرة أخرى على أنهم فريسة سهلة لكل التجاوزات المحتملة، في ظل تراخي دولهم في الدفاع عن حقوقهم، وعجز المنظمات غير الحكومية المتنامي عن إنقاذهم، أو التخفيف عنهم، للأسباب التي ذكرت، فضلا عن انفضاض المجتمع المدني في دول العبور عنهم لأسباب عديدة. يحدث ذلك كله في مناخٍ من تنامي مشاعر العنصرية. وقد شوهدت اعتداءات متكرّرة على المهاجرين في أكثر من بلد، بما فيها تونس.
يموت هؤلاء، وهم المحتجزون في ظروف غير إنسانية، في قصف صاروخي. إنها جريمة نكراء، ولكن ضحاياها مهاجرون، لا بواكي لهم، ولن يتحرّك ضمير العالم للتحقيق في ملابسات قتلهم. سيظل الجنرال المتمرّد، خليفة حفتر، يصطاد المزيد منهم.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.