فخامة الفقير

فخامة الفقير

07 يوليو 2019

(هاني حوراني)

+ الخط -
من الآن فصاعدًا، على الفقراء أن يدافعوا عن فقرهم، بوصفه "ثروة" مهولةً يسيل لها لعاب الأشرار... تلك خلاصة مفارقة جديدة من نوعها شهد الأردن فصولها، أخيراً، ملخصها أن أجهزة الأمن قبضت على مجموعة أشخاص عمدوا إلى انتحال شخصيات "عمّال وطن"، بحسب التعبير الرسمي لفئة عمال جمع القمامة، أو فئة "الزبّالين"، وفق التسمية الشعبية الدارجة منذ الأزل.
أما سبب الانتحال، فلأن هؤلاء العمال يحوزون عطفًا خاصًّا من أفراد الشعب الذين ينظرون إليهم بوصفهم من الطبقات المسحوقة في المجتمع، فيعمدون إلى تقديم العون لهم، بمساعداتٍ ماليةٍ أو عينية، حسب المتوفر. ويحدث كثيرًا أن يدسّ سوّاقون متوقفون عند الإشارات الحمراء بعض المال في يد "عامل وطن"، تصادف وجوده وهو يكنس الشارع، فوجد المزيفون والمنتحلون في هذه الرأفة المجتمعية المضمّخة بالمال فرصةً لممارسة لعبة الانتحال، عبر ارتداء زيّ "الزبّال"، وامتشاق المكنسة الطويلة، وتعمّد الوقوف في أماكن الازدحام، وعند الإشارات، فضلًا عن الأحياء الراقية التي تذكّر الأثرياء بوجود هذه الطبقة المسحوقة، فيعمدون إلى "تطهير" ثرواتهم بفضلات الدنانير التي يجودون بها على هؤلاء العمال.
والحال أن ما يحدث يمثّل انقلابًا في أساليب الاحتيال التي اعتاد عليها الناس، فإلى وقتٍ قريب للغاية، كان الاحتيال يقتصر على انتحال صفة الطبقات العليا في المجتمع، كالأثرياء والتجار والسماسرة وضباط الأمن وموظفي الدولة، لسلب الأموال بطرقٍ ملتوية؛ وغالبًا ما كان ينجح المنتحلون في عملياتهم؛ لأن تلك الطبقات تتمتع بكاريزما خاصة، يصعب معها عدم تصديقهم، خصوصًا رجال الأمن؛ إذ ينكمش المواطن، عندما يرى "نجومهم" ورتبهم اللامعة، فلا يجرؤ حتى على طلب إثبات شخصياتهم، قبل الوقوع في مصائدهم.
وفي قاموس التفسير السياسي لهذه الحادثة، ثمة آراء ماكرة، تحيل إلى طبيعة الحكومات الأردنية ذاتها التي جعلت من "التسوّل" صفةً ملازمة لها، وأظهر ما يكون ذلك، حين تمرّ البلاد بأزمة ما، على غرار أزمة اللجوء السوري، فقد رأى المواطن الأردني، بأم عينيه، كيف تتبدّل أخلاق رجال الحكومة، وهم يجوبون أقطار العالم، لتسوّل المساعدات، أو "للشحدة" كي يستقيم التعبير الشعبي، مستخدمين سائر أساليب استدرار العواطف على بلدٍ "يقف على حافّة الانهيار"، ما لم يتلق مساعداتٍ عاجلة وطارئة، وغالبًا ما يستدعي الشحاذون الرسميون تاريخًا ضاربًا في غياهب الزمن، للتدليل على مبلغ الأزمات التي يعيشها الأردن، منذ اللجوء الفلسطيني إلى اللجوء السوري، فينجحون أحيانًا، ويخفقون غالبًا؛ لأن هذه الذرائع لم تعد مقبولة، فضلًا عن أن اللاجئين أنفسهم سرعان ما ينخرطون في أسواق العمل، ويصبحون روافع مؤثّرة في العجلة الاقتصادية.
على ذلك، سرعان ما تتبدد دهشة المحللين الماكرين، من أمثالي، حيال واقعة انتحال صفة "الزبّالين"، على قاعدة "إذا كان ربّ البيت للطبل ضاربًا"، وانطلاقًا، أيضًا، من منصّةٍ قوامها أن المزيفين لن يكونوا إلا "على دين حكوماتهم"، وليس في وسع الإصبع أن يتبرّأ من اليد المبسوطة للتسوّل على الدوام.
على أي حال، تلك مسألةٌ تقبل الأخذ والردّ، بيد أن ما يعنيني من جملة الحادثة نفسها هو الشعور الجديد الذي لا شك أنه بدأ يخامر أفراد الطبقات المسحوقة في بلدي، أعني التمزّق الرهيب في المشاعر الذي سيساورهم، كلما نظروا إلى أنفسهم، فهل سينتابهم إحساسٌ مباغتٌ بأهميتهم مثلًا، على اعتبار أن هناك من أصبح ينتحل شخصياتهم، ويقامر بها، لجني المال الذي لم يستطيعوا هم أن يجنوه طوال حياتهم، أم سيشعرون بالخوف على فقرهم الذي بدأ الآخرون يجرّدونهم منه، ولكن من دون أي مقابل أو جزاء. وفي هذه الحالة، يتعيّن البحث عن مصطلح جديد لوصف طبقة واسعة من الشعب، لم تعد تندرج في "جيوب" الفقر، ولا في "معاطف" الثراء.. لكنها، على الدوام، مختطفة من الحياة.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.