كارولا راكيتي تمسح عاراً كثيراً

كارولا راكيتي تمسح عاراً كثيراً

05 يوليو 2019
+ الخط -
من قلب البشاعة المتمددة في هذا العالم، تخرج علينا صبية ألمانية قضت عدداً كبيراً من سنواتها الـ31 في مناهضة كل قرف الفاشية واليمين المتطرف في بلدها وفي قارتها. قرّرت القبطانة البحرية كارولا راكيتي مواجهة مخاطر التعرض للسجن في إيطاليا ولدفع غرامة 40 ألف يورو، وتحدي أحد جنرالات فاشيي العصر، وزير الداخلية الإيطالي نائب رئيس الحكومة ماتيو سالفيني، سليل موسوليني في رابطة الشمال، وهي بدورها وريثة الحزب الوطني الفاشي، وأنقذت 42 مهاجراً أفريقياً من الغرق في مياه المتوسط، وأوصلتهم إلى شواطئ جزيرة لامبيدوزا بالقوة بعدما صدمت بباخرتها خفر السواحل الإيطالية المدججين بالسلاح. ولولا وجود قاضية إنسانية إيطالية تُدعى أليساندرا فيلا، برّأت راكيتي من أي تهمة وأطلقت سراحها، يوم الثلاثاء، لربما سُجنت الشابة الألمانية عشر سنوات.
تنتمي كارولا راكيتي إلى جيل يتضاءل نفوذه وعديده بسرعة عكسية لتنامي الشعبويات والتشدد القومي الذي يلامس الفاشية حيناً ويزايد عليها أحياناً في التمييز بين البشر على أساس العرق واللون والدين والهوية والجنس وشكل الجمجمة والجينات. الشابة الألمانية تجسّد كل ما هو مناقض لعوالم بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب وماتيو سالفيني وجبران باسيل وفيكتور أوربان وفلاديمير بوتين وجايير بولسونارو وناريندرا مودي. تواجه جبروت هؤلاء كمتطوعة بلا راتب وبحب كبير من متطوعين مثلها ومتبرعين سمحت لها عطاءاتهم بقيادة مركب "سي ووتش 3" (مرصد البحر) المتواضع لإنقاذ المهاجرين الفقراء في مقبرة البحر المتوسط، وقبلها بالإبحار شمالاً في المحيط المتجمد الشمالي على متن باخرة تتبع لـ"غرين بيس" (السلام الأخضر) في إطار نضالها البيئي الإنساني ضد الرأسمالية وقوانين الاتحاد الأوروبي ويمينه المتطرف. بهذه الأسلحة الضئيلة، واجهت كارولا راكيتي عالماً بأكمله، ولا تزال، لتمسح عاراً كثيراً: عار وحوش القرن الواحد والعشرين في الغرب، وعار اليسار الأوروبي الرسمي الذي يناصر بغالبيته الساحقة أنظمة عالمثالثية تهجّر شعوبها ليموتوا في رحلة الهرب من الفقر والدكتاتوريات والقمع والاضطهاد، وتمسح عارنا، نحن العرب، أيضاً، حكاماً وشعوباً من طبقات وسطى يفترض أنها هي من تنتج في العادة "نخباً" لم تُظهر تاريخياً كبير حساسية تجاه العنصرية.
مسح كارولا راكيتي العار الغربي العنصري الآخذ في التمدد، لا يحتاج لشرح، على عكس ما يتعلق بفضيحة اليسار الأوروبي المتحمس لشخص مثل فلاديمير بوتين، هو مثال أعلى ليمين أوروبي وعربي متطرف فقط نكاية بـ"الإمبريالية الأميركية" الخبيثة، على أساس أن الإمبريالية الروسية هي حلال في عرف هؤلاء. لا همّ إن كان بوتين هذا هو محرّضا رئيسيا ضد كل ما يتعلق بفقراء العالم الثالث. أليس بوتين، مع ترامب، هما من حمّل أنجيلا ميركل مسؤولية خراب ألمانيا وأوروبا نتيجة سياستها "المتسامحة" تجاه اللاجئين؟
في بلداننا، قلما شهدنا حركة شعبية كبيرة معتبَرة شعارها إلغاء كل مظاهر العنصرية تجاه مواطنين أو أجانب، أيّما كانت جذورها، طائفية أو عرقية أو دينية أو جغرافية. جبران باسيل ربما يكون "نموذجاً" في هذا السياق، لكنه مجرد عينة. نسخة لا تخجل من التعبير عما يقوله في سرّهم حكام عرب آخرون، أو جاهروا به من دون أن ينالوا ما يستحقون من شتائم وازدراء. مثل من؟ بشار الأسد، عندما أعرب عن سروره إزاء هروب ملايين السوريين الذين اضطهدهم إلى الخارج، على اعتبار أن هذا الترانسفير الديمغرافي يساهم في بناء مجتمع سوري "أكثر تجانساً". قلّما عثرنا في تاريخنا العربي المديد على حاكم عربي يعتبر مكافحة العنصرية بكل أشكالها أولوية عهده. افتقدنا مانديلا عربياً حكومياً. كذلك شعبياً، يندر أن نتذكر وجود كارولا راكيتي عربية أو عربياً، قرر أو قررت إعادة الاعتبار لقيمة إنسانية غير محصورة بحدود الوطنيات والقوميات التي تقتصر على مواطنين ومواطنات.
أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري