جنة ونار

جنة ونار

31 يوليو 2019

(معمر مكي)

+ الخط -
ليس الحديث هنا عن ثوب فلسطيني تراثي قطني أبيض، ومخطط بالأحمر والأخضر تطلق عليه الجدّات اسم "جنة ونار"، وإنما عن البشر الذين يوزعون ويفرزون الموتى، بمجرد أن يبلغهم خبر وفاتهم ما بين الجنة والنار، وكأنهم خلفاء الرب في الأرض، في أحاديث وتعليقات ومقالات لا تخلو من شماتةٍ في الموت، وتعداد عيوب المتوفى ومساوئه وزلاته، ورفع متوفى آخر إلى مرتبة الأنبياء والملائكة، وكل واحد يدلي بدلوه، ولكن هناك جماعة تكتشف فجأة أنهم يحبون المتوفّى، على الرغم من أنهم كانوا أشد أعدائه في حياته، بل إنهم لم يفكروا بطرْق بابه يوما لتفقد أحواله. 
في حادثة وفاة الممثل المصري، فاروق الفيشاوي، كانت هناك عدة وقفات لسلوكيات مزعجة يمارسها البشر على الدوام بحق الأموات، الأموات الذين لم يعد لهم صوت ليدافعوا عن أنفسهم، فقد انتقلوا إلى العالم الآخر، وربما كانوا في ذلك العالم في منزلةٍ أفضل مما نتوقع لأنفسنا، ونحن نجلدهم ونخوض في سيرتهم، ولا نذكر من محاسنهم إلا القليل، وربما ننسى المحاسن على الرغم من الحديث النبوي: "إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة".
علق أحدهم على وفاة فاروق الفيشاوي: "يكفي أنه قد ترك ابنه أحمد الفيشاوي صدقة جارية له". وعلى الرغم من كل ما نسمعه عن هذا الابن، منذ ظهر على الساحة الفنية، من سلوكيات شائنة، ومنها قضية نفي النسب لطفلته، فنحن لا نعرف أي عمل طيب قد تركه فاروق الفيشاوي، وقد تداولت وسائل الإعلام شريط (فيديو) قصيراً له، وهو يفسح مكانا لرجل بسيط بملابس بالية يحاول الجلوس بين علية القوم في عزاء ممثل آخر، فهو جابر للخواطر، وما أعظم هذا الصنيع!
نحن لا نوزّع صكوك الغفران على الموتى، بذكر حسناتهم وسيئاتهم، ولكن النفاق هو الذي يحكم الناس بعد وفاة أي مخلوق، وفي النظر إلى موت شخصيةٍ شهيرةٍ مثل هذا الممثل لا يصح التعميم بشأن كل أهل الفن؛ لأن منهم فاروق الفيشاوي الذي له مواقفه الوطنية الواضحة، كما له سقطاته على الصعيد الشخصي، ومن كان منا بلا خطيئة فليقذف قبر هذا الرجل بألف حجر. كلنا نخطئ، والكثيرون يرتكبون مثل ما ارتكب من أخطاء وذنوب في حياته، ولكن أمثال هؤلاء الممثلين يكونون تحت المجهر، وهناك من يترقب زلاتهم وعثراتهم، ويحسب عليهم الهواء الذي يتنفسونه. ولذلك، العالم أجمع يرى سوءاتهم التي لا يجدون غرابا يحفر لكي يخفيها.
علينا عندما نسمع عن شخصٍ قد مات أن نصمت. أن نذكر محاسنه إن وجدت. أن نحترم حزن أهله ونقدّره، فمثل الفيشاوي، مهما كانت نظرة الجمهور له، فله محبّوه، وابنه الذي صال وجال في الدنيا لهوا وفسادا، هو في النهاية ابن يفقد والده، ومعظمنا خبر شعور فقدان الأب، فلماذا ننكر عليه حزنه ودموعه وانهياره وهو يودع والده الوداع الأخير، فحتى زعيم عصابات المافيا يبكيه أولاده حين يموت، فكل واحدٍ يرى بما يملك أنه الأفضل على وجه الأرض، ويرى كذلك أن زعيم المافيا كان أبا مثاليا في حياته العادية، في حين قد ملأ الدنيا ظلما وإجراما، وعاث في أرجائها فسادا، ويرى أحبّته أنه قد أثرى من أجلهم، حتى لو كان هذا الثراء بطريقة غير مشروعة.
الجنة والنار هما مملكتان مبهمتان، لم يخبرنا ميت أنه قد دخل إحداهما، فرحلة الموت هي الرحلة الوحيدة التي بلا عودة، أما حزن من حوله فهو يخصّهم وحدهم، ولهم أن يعبروا عنه بطريقتهم، حتى لو بكوا وأجسامهم مليئة برسومات الوشم وارتدوا الملابس الغريبة، وهم يتلقون العزاء بأحبتهم. ولا يحق لمذيعٍ ساذج سمج أن يقتحم هذا الحزن، ليسأل أحد ذوي الميت عن شعوره وهو يواري فقيده الثرى، ولم يجفّ الماء فوق تراب قبره، هذا السؤال الذي يستحق صاحبه أن يُفصل من عالم الأحياء بسببه.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.