ينْفرون من الاحتجاج على العنصرية

ينْفرون من الاحتجاج على العنصرية

04 يوليو 2019
+ الخط -
لا يمرّ يوم واحد في لبنان من دون ممارسة عنصرية مكشوفة ضد السوريين في لبنان، السوريين الفقراء طبعاً، الذين خرّب بشار وحلفاؤه عيشهم وبيوتهم، فطردهم، لا السوريين "المقرشين"، الذين لا يتوانى العنصريون اللبنانيون عن التعامل معهم بالتجارة والخدمات والتمريرات على أنواعها. خلال أيام متتالية، ومليشيات "مدنية" تابعة للحزب الذي يقوده وزير الخارجية جبران باسيل، "تزور" المحلات والمطاعم، وأي مرفق يمكن أن تجد فيه "عاملاً سورياً": لتنذر وتهدر، وتدقّق، وكأنها كلفت من جهة رسمية شرعية، بعملية الرقابة "الشعبية" هذه. ولا يمرّ يوم آخر من دون أن نخبر بقرار أصدرته بلديةٌ ما، تلتحق بما سبقها من بلدياتٍ، برفع يافطات منع التجول للسوريين المقيمين في الخيم البائسة على أطرافها، أو تحذّر من استخدام سوريين في مرافقها. يوم مشهود آخر، كانت بمبادرة من قوى الأمن اللبناني التي دمّرت مخيماً للاجئين السوريين في البقاع، وشتّتت آلافا من سكانه البؤساء على الطرقات. يوم "انتقم" فيه "الأهالي" البقاعيون من هذا الوجود، وتصاعدت فيه أصواتٌ تقلِّد وزير الخارجية، وتكرِّر ترّهاته. جحيم إنساني، أمني، مهني، يطاول كل ناحيةٍ من نواحي حياة اللاجئ السوري، المعدَم، في لبنان. وحلم هذا الوزير طرد اللاجئين إلى جحيمهم الأول، "وطنهم"، على ما يُفترض. ما يسمح، من تحت الطاولة، ومن فوقها، أن يسلّم الأمن اللبناني شباباً إلى الأمن السوري، دخلوا إلى لبنان، بلد القوانين، ليعودوا إلى النار الأصلية. 
وأنتَ، وسط هذا المشهد، يصيبك الغضب، بعدما تكون قرّرتَ ألا يلامسكَ، نظراً لفائض 
دوافعه. واحدٌ من فروعه مقاساة الشحْنَين العنصري والطائفي - المذهبي؛ والاثنان يتنافسان على إلقاء سموم الفحيح اليومي، الغذاء اليومي للسموم. يضيف تلوّثاً على آخر، فكيف تصبح الحياة بعد ذلك؟ غير عجز فوق آخر؟ عجز من يكون شاهداً على الظلم من دون أن يملك أي حيلة لردّه، أو للردّ عليه، فكانت مبادرة من ثلاثة مثقفين، حازم صاغية، ويوسف بزي، وحسام عيتاني، لكتابة بيان استنكارٍ ضد توسع الكراهية العنصرية. يوزّعونه على مثقفين لبنانيين يعملون في مجالاتٍ شتى، ويطلبون منهم التوقيع عليه، فكانت التواقيع التي يعرفها الجميع، بسرعة قياسية، أكثر من مئتين في غضون ساعات، وسيْلٍ لم يتوقف، حتى بعدما أعلن المنظمون عن إغلاق باب التوقيع، تمهيداً لنشره إعلامياً. أضعف الإيمان، مارسه أولئك الموقعون. شيء من الهواء النظيف تنشّقوه، ولو لحظات.
ولم تتأخر ردود الفعل على البيان من الظهور، مباشرةً بعد صدوره. لا يمكن إيرادها كلها هنا. كانت حاشدة. ولكن يمكن تلخيص مضامينها. أولا، الإعلام الممانع تجاهل تماماً هذا البيان. كأنه لم يُكتب، ولم يوقّعه 240 مثقفاً بين إعلامي وكاتب وباحث وفنان وروائي.. إلخ. مرّ عليهم البيان مرور الكرام، فيما جنود الممانعة وحلفاؤها كانوا أصدق تعبيراً: وصفوا أولاً شدّة انزعاجهم من صفة "مثقفين" هذه. منهم من وضع المزدوجين حول الكلمة، أي أن هؤلاء "المثقفين" هم منتحلو صفة. وهذه "نتْعَة" دارجة في أي وسطٍ يتعاطى بالثقافة. ثم بعد هذا النكران للهوية المهنية والثقافية، استعرض هؤلاء الجنود الممانعون وحلفاؤهم كرههم المحتجين ضد العنصرية، فكان الاستخفاف بالموقّعين، بالتقليل من شأنهم، بالشتائم، بالكلام البذيء، بالاحتقار، بالإهانات، بالسخرية البائخة، بالتهديد والتخوين أحياناً. على طريقة معمر القذافي "من أنتم؟!"، أو من "تكونوا حتى يكون لكم رأي بكذا أو كيت من المسائل!؟".. إلى ما هنالك مما يشبه حفلة لبنانية خالصة في قياس الوجاهة، والظهور، والعزْوة وكل أدوات السيطرة "العاطفية" على الجمهور، والتي يتقنها زعماؤهم المحبوبون.
المهم الآن، أننا إزاء واحدٍ من الاحتمالين: إما أن الممانعين غير عنصريين، ولكنهم لا يحبون أن تكون المبادرة إلا بأيديهم، وليس بأيدي غيرهم ممن يختلفون معهم في السياسة. علماً أن البيان لم يغُص في هذه اللعبة، وتجنّب التطرّق إلى حزب الله، إلا بعباراتٍ ملطّفة، قصدها ربما، لنيل مزيد من التواقيع؛ وتركيزه على وزير الخارجية ربما يكفي لمن يعرف لبنان قليلاً، أن يفهم: فالوزير السوبر هو صنيعة حزب الله. وهذا التخفيف باللهجة أمرٌ مشروع، في سياسة التجميع، لا التفريق. فيما أشار البيان، في نواحٍ أخرى، إلى الجوانب غير السياسية بتأكيده أن "إنسانيتنا" هي المعنية أكثر من أيديولوجيتنا، في مأساة اللاجئين السوريين. إما إذن، لا يستطيب الممانعون نشاطاً غير الذي جاء من الوحي إياه، يلتقطونه بأريحية، دائماً. إما هذا إذن.. أو أنهم فعلاً عنصريون، ولا يستحون. مثل بطلهم، وزير الخارجية، المتباهي بعنصريته، اقتداءً بكبار العالم، من نوع دونالد ترامب وفلاديمير بوتين. وفي هذه الحالة، تفهم قليلاً تحقيرهم البيان المعادي للعنصرية، والموقعين عليه.
بعد ذيوع البيان بيوم أو اثنين، تعرّض اللاجئون السوريون، الموجودون في بيروت الكبرى، 
لحملة اصطياد شرسة، قادتها بلدية بيروت، بديباجة أنهم "مخالفون"، لا يملكون أوراقاً "رسمية". وهذه ديباجةٌ تعزّزها سياسة ما نسميها "دولة لبنانية"، و"منهجيتها" الصارمة بالامتناع عن منحهم هذه الأوراق عند دخولهم "الشرعي" إلى لبنان، تسهيلاً لإبقاء سيفها فوق رقبتهم، فيعيش هؤلاء أفلاماً من الرعب الخالص، يفرّون، يتوارون، ينشلّون؛ فيحتجبون عن العمل الذي هو مصدر رزقهم القليل الوحيد.. سبقت هذه الحملة التحاق بلديتين إضافيتين بالسرب، عبر إصدار قرار بمنع تشغيل السوريين في مجال البناء والبلاط والسنكرية؛ أي المهن المسموح بها أصلاً من "الدولة اللبنانية"، فبيان الاحتجاج على العنصرية لم يكن له أي أثرٍ على الأرض. بل بالعكس، اشتدّت الحملة العنصرية غير القانونية، باسم القانون، على اللاجئين السوريين، فوضعت المحتجين عليه أمام مهمةٍ كلفوا أنفسهم بها؛ بعد مهمة التوقيع هذه، بعد مهمة الإعلان عن الموقف. وقوامها مقاومة العنصرية "بكل الوسائل المدنية المُتاحة والمشروعة، بما في ذلك رفع دعاوى أمام القضاء، وحضّ المحامين ومنظمات حقوق الإنسان على التحرّك لوقف الحملات التي تستهدف السوريين في لبنان". فهل ننتقل إلى المرحلة الثانية من الاحتجاج؟