من محمد عبده إلى محمد مرسي

من محمد عبده إلى محمد مرسي

04 يوليو 2019

(محمد عبده ومحمد مرسي)

+ الخط -
وأنا أرسم أحرف هذا العنوان، استوقفني سائل، ألاَ يُسْتَحْسَن أن يكون العنوان المناسب لما يدور في ذهنك هو رشيد رضا أو حسن البنا ومحمد مرسي؟ لم أرُدّ على من سألني، وازددت اقتناعاً بمطابقة العنوان ما أنا بصدد التفكير فيه، ومعتبِراً، في الوقت نفسه، أنه سيتيح لي تجاوُز أحاديث ومواقف من تناسوا، في أثناء الحديث عن محاكمة الرئيس المصري الأسبق، محمد مرسي، وموته، أنه يمثل حركة سياسية، وأن خياراته الإيديولوجية والسياسية ترتبط بأحد تيارات الثقافة السياسية المناهِضة لمشروع تحديث ثقافتنا ومجتمعنا. وأن ما يحصل اليوم في مصر، وفي العالم العربي، يندرج ضمن موازين الصراع السياسي والثقافي الدائر في محيطنا الذي يَعْبُرُ، في السنوات الأخيرة، دوامة من الأحداث والتناقضات، المرتبطة بالثورات العربية وما بعدها..
يتمثَّل الجامع الأكبر بين الرجلين في ارتباطهما معاً بالمرجعية التراثية ومحاولة الاستفادة من بعض أرصدتها الرمزية، في أثناء مواجهة إشكالات الحاضر في زمن كل منهما، علماً أن المسافة الزمنية بينهما تتجاوز اليوم قرناً، حيث نفترض أن الفرق الزمني بينهما، إضافة إلى المكاسب الإصلاحية التي خَلَّفها الأول، يمكن أن يؤدّي إلى تطوُّر المنزع الإصلاحي السلفي وتطويره، بدل التوقف أو التراجع عن محصلته وآفاقه، كما نتبيَّن ذلك بجلاء في أدبيات الإخوان المسلمين، العقائدية والسياسية.
دعا محمد عبده، وهو يفكر في إصلاح أوضاع مجتمعه وأمته، في نهاية القرن التاسع عشر، أي في زمن المد الإمبريالي، إلى ضرورة التواصل مع الآخرين، والاستفادة من منجزاتهم
 المعرفية المختلفة. وجنح، في مشروعه السلفي، إلى نوعٍ من المواءمة بين الإسلام ومتطلبات الأزمنة المعاصرة، حيث قدّم، في مجمل أعماله، جملة من التصوُّرات الهادفة إلى إعادة النظر في العقائد الفاسدة، بهدف إنجاز ما يتيح لمجتمعاتنا الاندماج الإيجابي في الأزمنة الحديثة. ويحفظ لنا التاريخ المساهمة التي بلورها الشيخ في أثناء صياغته برنامج الحزب الوطني المصري سنة 1881، حيث وضَّح، في المادة الخامسة منه، أن الحزب الوطني "حزب سياسي لا ديني، إنه حزبٌ مؤلفٌ من رجالٍ مختلفي العقيدة والمذهب (..) وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها، لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات".
ويحق لنا أن نتساءل، هل واصل الذين انخرطوا في الدفاع عن المشروع السلفي بعده تطوير الأوجُه القوية في نزوعه التوفيقي بين الروح الإسلامية ومكاسب عصرنا؟ هل تابع الشيخ رشيد رضا والشيح حسن البنا وسيد قطب، ومن جاء بعدهم من شيوخ "الإخوان"، هل تابع هؤلاء، إيجابيات المنزع التوفيقي الذي تبلور في أعمال الشيخ محمد عبده؟ لا نعتقد ذلك، وأدبيات الإخوان المسلمين في مصر وفي العالم الإسلامي لا تقدّم ما يُبرز درجات تمثلهم وتجاوزهم أطروحات مؤسسي الخيار السلفي في فكرنا الإصلاحي، فما تزال أجنحتهم السياسية تتبنَّى أسلمة المجتمع والدولة والعالم أجمع.
لا نجد في آثار "الإخوان المسلمين" ما يوضح سِرَّ المسافة التي تزداد اليوم اتساعاً بين روح 
المواءمة بين قيم الإسلام ومنجزات العالم المعاصر، قدر ما نجد خياراتٍ قريبةً من الروح التي انتقدها محمد عبده في ثقافة زمانه وشيوخه.. فقد كان يروم تحرير الخطاب الديني من آليات التصلب النصية والتاريخية التي رسّختها أزمنة التقليد التي عمَّرت طويلاً في ثقافتنا. صحيحٌ أن المشروع السلفي النهضوي الذي ساهمت في بلورة أسسه أعمال محمد عبده وفتاويه أصبح يمتلك اليوم محدودية معينة في فكرنا، إلا أن سقف الاجتهاد في آثاره واضح، فلم تكن مهمته سهلةً، وهو يُواجه فقهاء الظلام في عصره.. فكيف انقلبت إرادة الانفتاح على مكاسب العصر، ومحاولة إيجاد جسور بينها وبين قيم الإسلام، إلى المظاهر المتأسلمة التي تملأ اليوم مشهدنا السياسي؟ كيف نفسّر انطفاء شرارات المواءمة التي بادر بإطلاقها، وهو يحاور فرح أنطون، مبرزاً أن الإسلام دين العلم والمدنية؟ لماذا يرفض الإسلام السياسي اليوم الدولة المدنية؟ لماذا يرفض التشارك والتناوب والتعاقد والأخلاق المدنية؟
أنتجت إصلاحية محمد عبده، وهي تحرص على لزوم المواءمة بين مقتضيات الأزمنة الحديثة والمبادئ الكبرى للإسلام، خطوة أولى مهمةً في درب الإصلاح الطويل والشاق، وركبت بمشروعها جملةً من المفارقات التي حاولت تياراتٌ أخرى رفعها، والتقليص من تأثيرها السلبي، في موضوع التكيف مع روح عصرنا، إلا أن تلامذته انقلبوا على نزوعه التوفيقي، وأعلنوا بدل ذلك مواجهة ما اعتبروها "جاهلية القرن العشرين"، معلنين أن "المستقبل لهذا الدين".
لقد كسر الإخوان المسلمون جسور الملاءمة التي ركَّبها محمد عبده، فعدنا معهم إلى درجاتٍ من الفهم، لا علاقة بينها وبين ما كانت تحمله إرهاصاته في الإصلاح من علامات مضيئة. واليوم ونحن نُعايِن بعض أوجُه الاستبداد السياسي المتواصلة في أغلب المجتمعات العربية، يحق لنا أن نتشبث بروح اجتهادات محمد عبده، ونذهب بها نحو ما هو أبعد من الانفتاح على قيم عصرنا السياسية، فنواصل مطالبنا بتحقيق الدولة المدنية، دولة بناء قواعد المشروع الديمقراطي في مجتمعاتنا.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".