ثقافتا القطيع والتقطيع

ثقافتا القطيع والتقطيع

28 يوليو 2019
+ الخط -
تناقلت محطات التلفزيون العالمية، كما الصحف باللغات المحكية كلها تقريبا، تصريحاً مصوّراً لوزيرة مصرية في حكومة الانقلاب القائم منذ 2013، اسمها نبيلة مكرم عبد الشهيد، تتوجه فيه إلى ممثلي الجالية المصرية في كندا، المصفوفين كالتلاميذ حول طاولات مستديرة، وبدوا مصغين بعمق إلى الخطبة العصماء التي تكرّمت منحهم إياها الوزيرة القادمة من قاهرة السيسي، قاهر الشعب وقاهر الأمل. وفي معرض الحديث عن أمجاد الوطن بقيادة رئيسها المفدّى، وصانع المعجزات وأسياخ الكباب، قالت، باللهجة المصرية طبعا: "من يود الحديث عن مصر في الخارج بالسوء سنقوم بتقطيعه (...)". وقد قوبل هذا البيت من الشعر الدموي بتصفيق الانصياع من الحضور المُصاحب بضحكات بلهاء، تُميّز المتمجّدين في كل أصقاع الدنيا.
ما هو الغريب في أن تتوجه ممثلة للحاكم المستبد إلى ممثلين مختارين للمتمجّدين بحمده، ولو كانوا على بعد آلاف الأميال؟ أليس معروفاً أن جُلّ من يُدعى إلى هذه المناسبات، ممن يُدّعى أنهم يمثلون الجالية في المهجر، يجري اصطفاؤهم بعناية وحذر من أجهزة المخابرات وفروعها الدبلوماسية في شرق الأرض ومغربها؟ أليس من الطبيعي، ليس مصرياً فحسب، أن يختار 
جهاز أمن السفارة العربية، لأنه لم يعد للدبلوماسية في هذه المعسكرات الهجينة من دور، من يحضر ومن يغيب؟ ولا بل إن اقتصاد الفساد يُلزم أحياناً القائمين على هذا العمل "الوطني" ببيع أماكن الحضور للمتمجّدين، القدماء منهم والجدد، وحتى للراغبين في تحصيل خدمة أو توصيل رسالة لخدمة أو منفعة شخصية مباشرة، فيدسّون ورقة صغيرة أو مغلفا سميكا في جيب الوزير أو الوزيرة، المسؤولة أو المسؤول، الذين هم في النهاية "عسس" القائد المناضل السفاح محرّر الشباب والكهول من آمالهم وتطلعاتهم، لأنه الأكثر فهماً لما تواجهه الأمة من مخاطر تُحدق بمستقبلها، فيدمّر حاضرها مخيباً المستقبل من أن يجد شيئاً ما زال غير مدمر أمامه، وبالتالي، هو يقطع الطريق على مطامع القوى المتربصة شرّاً بوطنه الغالي.
ما هو الغريب أيضاً في أن يُهدّد مسؤول في بلد يحكمه مستبدٌ من يجرؤ على توجيه النقد إليه في الخارج بالتقطيع وبئس المصير؟ أليس من العدل معاملة مواطني البلد، في مختلف تموضعاتهم الجغرافية، بالقسطاس؟ فمن هم في الداخل، يجري تقطيعهم جسدياً فعلياً إن لزم، أو تقطيع سبل عيشهم، أو تقطيع أعمارهم، بزجّهم في معتقلات تنتشر كالنار في هشيم صحراء مصر الواسعة. ومن الواجب الوطني لكل حاكم "مستنير" إذاً أن يمنح من هم خارج البلاد المستوى نفسه من المعاملة "الإنسانية" التي ترفع رأس البلاد عالياً في المحافل الدولية كقوة إقليمية تواجه الإرهاب، وتحمي دول الشمال من قوارب الهجرة. وفي النهاية، من الطبيعي أن يلتزم التلميذ المصري بمرشده السعودي، وتعاليمه العصماء، فالتقطيع بالمنشار مارسه المُرشد في قنصلية بلاده في إسطنبول ضد صحفي نقدي، لم يكن محسوماً وصفه بالمعارض الشرس لنظام الحكم، فالمنطق الرسمي المصري صار "خير" تلميذ لـ "خير" معلم.
سياسة التقطيع، على مختلف أشكالها، مورست وتُمارس في أنظمة مستبدة كثيرة ضد
ا لمعارضين السياسيين في الداخل وفي الخارج. وقد حفل التاريخ بأمثلة رمزية لها، تمّت أحياناً حتى بالتعاون مع بلدان ديمقراطية لجأ إليها المعارضون، فالمهدي بن بركة، تم خطفه سنة 1965 في باريس وبالتعاون مع الشرطة المحلية، والتي وإن لم تأتمر بمرؤوسيها، إلا أنها لم تُساءل إلا رمزياً عن دورها في هذه الجريمة. كما استطاع النظام السوري قتل صلاح الدين البيطار، أحد مؤسسي حزب البعث في باريس سنة 1980، وتمت التسوية السياسية للعملية، كما عملية قتل السفير الفرنسي في بيروت لوي دولامار سنة 1981، وتفجير مقر القوات الفرنسية في المدينة نفسها، بعد هذا الحادث بسنوات قليلة، من خلال زيارة فرانسوا ميتيران دمشق سنة 1984، كما ورد في مذكرات مستشاره السياسي، جاك أتالي.
يستغرب بعضهم من أن الوزيرة التي هددت بالتقطيع هي "بنت ذوات" كما يُشير إلى ذلك بعض الإخوة المصريين، وبالتالي، هم يفترضون أن مثل هذه التعبيرات يجب أن تكون غريبة عنها. وفي هذا الاستغراب نوع من التحليل الطبقي الذي لا يُلائم أبداً تجارب الأنظمة المستبدة في العقود الأخيرة، فمن نافل القول إن هذه الأنظمة ضمّت إلى هوامشها غير المؤثرة أبناء "ذوات" متملقين متمجّدين يبحثون عن فتات مائدة الطاغية. وعادة ما يكون هؤلاء أشد انبطاحاً أمام المستبد ممن سبق له في زمانٍ غابر أن اقتنع بإيديولوجيا، وانضم إلى حزب انقلابي قاده، في النهاية، ليكون في السلطة، ويهرف من ثروات البلاد، ويقتل حيوات العباد.
من بغداد، ومروراً بدمشق ووصولاً إلى القاهرة، لم تتوقف تجربة "أبناء الذوات" في التملّق والتمجّد والتزلّف للطغاة، بحثاً عن منفعةٍ أو ترجمةً لخوف متجذّر في الثقافة النخبوية لبعض المكونات المجتمعية في هذه المنطقة المصابة بوباء الخضوع. والوزيرة المصرية التي صارت أشهر من نارٍ على علم لا تفعل إلا أن تؤكد هذه القاعدة. والاستثناءات نادرة.

دلالات