بمثابة تحية إلى صديق معتقل

بمثابة تحية إلى صديق معتقل

27 يوليو 2019

نبيه نبهان.. ناصر النضال السلمي في الثورة السورية

+ الخط -
كان صوته الأكثر انتماء لسورية الوطن والمجتمع والحضن، من بين أصوات كل من قرروا البقاء داخل سورية، وتحديدا في طرطوس، المدينة الساحلية الصغيرة التي يقال إنها أكثر مدينة سورية قدمت ضحايا على محراب كرسي الأسد ودائرته، حتى ليقال أيضا إن قرى بأكملها فيها لم يبق من شبابها ورجالها أحد. قضت الحرب على كثيرين منهم، ومن استطاع النجاة هرب إلى الخارج، كي لا يُساق كأضحية إلى الخدمة العسكرية، فيصبح قاتلا أو مقتولا. هذا الوضع الميداني جعلها تتصف بصفة الموالاة الكاملة لنظام الأسد. وعلى الرغم من استقبالها مهجّرين كثيرين، مثل كل المدن السورية الآمنة، إلا أن هذا لم يستطع أن يغير من اصطفافها السياسي. ظلت طرطوس آمنة، لم تحدث فيها حوادث أمنية تذكر، خصوصا بعد الوجود الروسي المستقر فيها، وظلت، في الوقت نفسه، خطرة جدا لمن يؤيد الثورة، ولمن يعارض سياسات النظام التي دمرت الوطن وشردت أهله، أو لمن يعارض سياساته في تسليم البلد لمحتلين جدد. 
جعل هذا الواقع الغريب في المدينة معارضيها بين خيارين، الصمت عن الحدث السياسي اليومي، خصوصا على صفحات التواصل الاجتماعي، أو الخروج النهائي منها ومن سورية كلها. وحده نبيه نبهان، المهندس السوري الستيني اليساري، الذي اختطفته جهة أمنية من مكتبه قبل ثلاثة أشهر، اختار البقاء في طرطوس، واختار أن يبقى صوته وطنيا سوريا، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وعاليا بحيث يصل إلى الجميع.
أعرف نبيه نبهان منذ زمن طويل، لكننا لم نكن يوما على صلةٍ وثيقة. كنا نلتقي أحيانا في جلسات ثقافية في طرطوس، في الفترة التي سميت ربيع دمشق في بداية الألفية الثانية، حيث انتشرت ظاهرة الصالونات الثقافية والسياسية (سرعان ما تم إغلاقها بخطوة أمنية كانت تشي بمستقبل سيئ للبلد). ومع انطلاقة الثورة بداية 2011، كان نبيه ممن ناصروها، وأيدوا الحراك والنضال السلمي فيها، على الرغم مما حمله له ذلك من اتهاماتٍ ومحاولات للإساءة، شأن عديدين من أهل مدينة طرطوس في بداية الثورة. ومع بدء العنف والقتل والتهجير، كانت صفحة نبيه نبهان على "فيسبوك" مخصّصة تماما لمحاولة رأب الصدع الكبير الذي بدأ يظهر في المجتمع السوري. كان هو ابن كل مدينة أو بلدة أو قرية تتعرّض للقصف والموت. لم يكن صوته يفرّق بين مدينة وأخرى، وبين طائفة وأخرى، حتى بعد عسكرة الثورة ومحاولات جرّها نحو الأسلمة، ظل يحاول إيجاد المبررات للسوريين الذين فرض عليهم الأمر الواقع التجند في الكتائب الجهادية، بمحاولته نفسها إيجاد المبرّرات للعسكريين الذين لم تكن لديهم طريقة أخرى للهروب من الحرب، كان وجوده على "فيسبوك" يوميا، بمثابة إبرة حياكة تحاول رتق الصدع الاجتماعي السوري، على الرغم من موقفه الواضح من ضرورة التغيير السلمي، ومن الاستبداد، ومن الاحتلالات المتعددة لسورية، ومن البيع الفاضح للبلد للشركات الاستثمارية الروسية، خصوصا طرطوس التي رآها تتحول شيئا فشيئا إلى مدينة تابعة لروسيا. هذا غير متابعته الدؤوبة خلال سنوات الحرب، مع أصدقاء كثيرين لفقراء المهجرين في طرطوس، من سكان المخيمات التي كانت تتوزع في أنحاء المدينة، ولا سيما ما يتعلق بالأطفال وشؤونهم وأولها التعليم.
لم يكن اعتقال نبيه نبهان مفاجئا، إذ اعتقل قبل ذلك مدة قصيرة، وكان يتم استدعاؤه دائما للمراجعة الأمنية، وكان ممنوعا من السفر، شأن كثيرين ما زالوا في سورية! كنا نحن، من في الخارج، نخاف عليه، ونخاف من خبر اعتقاله، غير أننا لم نكن نظن أن يحدث أمر كهذا، بعدما أعلن النظام السوري انتصاره على "المؤامرة الكونية"، حيث لم يعد يخيفه شيء، فما بالكم بمواطن سوري يخاف على سورية كما لو كانت أمه فعلا، ولا يفعل شيئا سوى التعبير عن هذا الخوف على صفحات التواصل الاجتماعي؟ّ هل النظام الذي يخاف من صوتٍ كصوت نبيه نبهان منتصرٌ فعلا؟
أما لماذا أكتب عن نبيه دون غيره من آلاف المعتقلين، فربما لأنني لم أجد ما أساند به ابنته التي تكتب يوميا عنه على صفحتها الفيسبوكية، وتعد أيام غيابه يوما وراء آخر، سوى الكتابة عنه، وربما لأن تغييبه كشف لي كم كنت محتاجةً لأن يبقى أصدقائي القلائل في طرطوس بأمان، كي أبقى آمنة أيضا.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.