قمر توفيق الحكيم

قمر توفيق الحكيم

26 يوليو 2019

طابع بريدي أميركي (9/9/1969/Getty)

+ الخط -
كان حدثا تحدّى الخيال، كأنه جاوز المستحيل، يوم مشى الأميركي نيل آرمسترونغ، ثم رفيقان له، على القمر. اكتملت هذا الأسبوع خمسون عاما على تلك المعجزة التي أنجزتها البشرية. وباستعادتها الآن، بعد أن صارت "مشاوير" العلماء إلى القمر لا تستثير اكتراثا، نطلّ عليها، فنراها لم تُحدِث ما تخوّف منه الشعراء والفنانون: أن يصير القمر جُرْما فحسب، كما غيرُه، لا يصلُح لمجازات الشعراء، ولا لارتباكات العشّاق. .. لا نزال نصون القمر من ذلك الاعتداء التاريخي على صورتِه، ليبقى الذي تُشابَه به الجميلات، ويظلّ "نورا" والشمس "ضياءً"، كما جعلهما ربُّ البرية، على ما تُفصح آيةٌ قرآنيةٌ كريمة. تصدّى الشعراء والفنانون لما يفعله رواد الفضاء عندما يستبيحون القمر. لم يسمحوا بفقدان ما تمنحه صورتُه للأخيلة والقرائح، فإذا خسر الشعراء تعلّقهم به، ماذا سيصنعون؟ ماذا سيكون عليه أمر الحبيبيْن اللذين سيبقيان حبيبيْن إلى أن ينام القمر، كما أخبرنا عنهما محمود درويش، الشاعر الذي ربما تكون قصائدُه الأكثر استحضارا للقمر. وغزارة الأقمار في قصائد الشعراء، وفي الأغنيات، وسيعةٌ وشاسعة، منذ ما قبل غزل عنترة بحبيبته عبلة، لمّا جعل القمر يخجل أمام جمالها: خودٌ رِداحٌ هيفاءُ فاتنةٌ/ تُخجل بالحسنِ بهجةَ القمر. .. مرورا بالعباس بن الأحنف الذي أخبر، في بيت شعري، من يسأل عن حبيبته: .. إن كنتَ لا تدري فانظر إلى القمرِ. .. وصولا إلى فيلمون وهبي في أغنية فيروز "حبيبي بدّو القمر/ والقمر بعيد"، وإلى الإسباني لوركا الذي رأى القمر أحمر من فرط الموت الذي ينظر إلى الشاعر من أبراج قرطبة. 
لمّا فعلها آرمسترونغ وزميلاه، كتب يومَها أنسي الحاج إنه تمنّى لو أنهم اصطحبوا معهم شاعرا، فالمشهد يحتاجُ إلى وصف ما فيه من سحرٍ وغرابة. ثم فعل توفيق الحكيم ما أرادَه أنسي، في مسرحيةٍ من فصلٍ واحدٍ سمّاها "شاعر على القمر"، نُشرت في 1972، ولكنه لم ينشغل فيها بالذي جاء إلى خاطر الشاعر اللبناني، وإنما قصد أن يحذّر من "تمادي" العلم، إذا ما خلت طموحاتُه وكشوفاتُه من تفكير إنساني. تبدأ المسرحية بإلحاح شاعرٍ على مدير عمليات غزو الفضاء من أجل أن يكون مع رائديْن تتم تهيئتهما للسفر إلى القمر. يرفض الرجل هذا "التخريف"، بحسب مفردتِه، ثم يستجيب، فيغادر الشاعر إلى هناك، ويبقى، طوال الرحلة، مصابا بالذهول والدهشة، على غير حال الرائديْن اللذيْن يشرعان، لحظة الوصول، في إخراج الأجهزة لجمع عيّناتٍ من صخور وحجارة. يضيف توفيق الحكيم إلى المشهد أصواتا تطوفُ بالشاعر، يسمعها وحده، وتحيط به أضواءٌ خافتةٌ ذات ألوان، يتحاور مع هذه الأصوات. ثم يُدهش مما جمعه صاحباه، ويرفض أن يُقسِم لعدم الإفضاء بسرّ هذه "الكنوز"، ويلحّ على أن تبقى هذه في مكانِها في القمر. يخاطبهما: لا ينبغي أن تذهب إلى كوكبنا الأرضي، إذا كنتم تريدون أن يبقى هنا على القمر سلام.
يطول الجدال ويشتد بين الرائديْن والشاعر الذي يخشى من أن يعرف التراب البكر في القمر لون الدماء. يتخيّل تقاتلا على ثرواتٍ هنا. يقول: لو كانت هذه الثروات ستوزّع على أهل الأرض جميعا لكنتُ معكم. يطلب منهما أن لا يثيرا الجشع في النفوس الآن، ".. يجب أن نعمل على أن يسود كوكبنا الأرضي العدل والإخاء". هنا بالضبط مقولة مسرحية توفيق الحكيم، ذات النزوع الوعظي، الرسولي. يؤكّدها حديث الشاعر إلى مدير غزو الفضاء، عندما يعود إلى الأرض، ويطالبه بأن تبقى "الكنوز" في طي الكتمان الشديد، لأن أي تسرّبٍ لخبرها سيُحدث كارثةً، بحسبه. وعند فحص الحجارة والمعادن التي جيء بها من القمر يتبيّن أنها بلا قيمة. كأن توفيق الحكيم أراد رمي رجال العلم بأنهم مشغولون بالمادّة، بالمحسوس، ولا يُصغون إلى السكون وهمسِه. الشاعر هنا تعبيرٌ عن عالمٍ صافٍ، كما الكائنات التي حاورته على القمر، فيما العلماء قد يخدمون، من حيث لا يدرون، أعداء السلم.
لعلها العقلانية الذهنية المحضة أتعبت هذا النص المسرحي القصير، فلم ينجح الحكيم في استثمار ابتعاثِه شاعرا إلى القمر، بما كان سيُحدثه هذا من استنفار مخيّلةٍ عندما يحتكّ بها واقعٌ طالما أرادته خيالا. جاء آرمسترونغ وزميلاه، قبل خمسين عاما، ببقايا حصى صغيرة وبعض غبار، التقطوها من خمس بقع في القمر، في وسع زائر متحف الجو والفضاء في واشنطن أن يراها. وقيل: ربما القمرُ ليس جميلا، إلا لأنه بعيد.

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.