دعوة جادّة إلى الأمل

دعوة جادّة إلى الأمل

25 يوليو 2019
+ الخط -
لا أدّعي أنني أشعر بسعادة غامرة وأنا أشهد حجم الانحدار الذي تنزلق إليه الأمة عموما، مترافقا مع حجم "الانتصار" الذي يحققه أعداؤنا، بل إنني، شأن كل من يتابع الشأن العام، تمر بي لحظات سوداء، أشارف فيها على السقوط في "ثقب أسود" من اليأس التام، غير أنني سرعان ما أفيق من هذه السوداوية، وأستعيد توازني، ليس لأنني متفائل بطبعي، (لا أؤمن لا بالتفاؤل ولا بالتشاؤم، بل أؤمن بالإنجاز فقط، وهو مصدر السعادة الحقيقي). ولكن لأن ثمّة فعلا في المشهد البائس ما يبعث على كم كثير من الأمل، بغد (أو بعد غد) أفضل.
في المطلق، يمكن أن "ندّعي" أنه حين يتحدّث الكبار، يرون أمامهم أبوابا كثيرة للفرج المستقبلي، لا يراها الزاحف على بطنه الذي لا يرى غير رؤوس الأحذية، فيحسبها صواريخ موجهة، أو سفنا فضائية تستعد للانقضاض عليه، ذلك أن "الكبير" مشرفٌ على الصورة الكلية، وينظر إليها من أعلى، ويحلّل الأمور بنفسية فيها كبرياء وعنفوان، يفتقدهما المهزوم والمأزوم، ليس اتهاما موجّها لأصحاب الرؤية السوداء، بقدر ما هو دعوة إلى رؤية المشهد من علٍ، لا من موقع زاحف، إن جاز التعبير!
سأعترف هنا بشيءٍ ربما لا يروق لكثيرين، في وقت سابق وقبل سنوات ربما، كنت كلما شعرت بانكسار، أدير جهاز تحكم التلفاز على قناة "المنار"، لأرى ما لا أراه في بقية القنوات العربية، ليس لأسمع فقط لفظ "شهيد" يسبق أسماء الضحايا الفلسطينيين الذين يسمونهم "قتلى" في بعض القنوات، بل لأستمتع بمشاهد المقاومة والتحدّي التي لا تهتم بها قنوات كثيرة، ولم أكن أعرف حينها أن وراء اهتمام "المنار" بمثل هذه المشاهد رؤية إعلامية متكاملة يتبناها أمين عام حزب الله، الشيخ نصر الله، بغضّ النظر عن شيعيته، وسنيتنا، وقد اتضح لي هذا الأمر بعد لقاء عام جمعني به في بيروت، حيث كرّس الرجل جل كلامه لرؤية الجانب الممتلئ من الكأس، بل حتى كان حينما يمر بكأس فارغ، كان يملأه برؤيته الإيجابية، وقد خرجت من ذلك اللقاء حينها وأنا ممتلئ بالفخر، كوني أنتمي لهذه الأمة.
قبل فترة طويلة، نشر تقرير موسع عن معنويات الجنود الأميركيين في العراق، تحدّث بحرقة عن حاجة الميديا الأميركية الملحّة إلى مشهد "انتصار" لرفع معنويات الجنود والشعب 
الأميركي، ولبثّه في موازاة مشاهد الجنود المقهورين المتعبين الذين يشهرون بنادقهم بذعر في وجوه الأطفال والنساء بعد احتلال بغداد، في مداهماتهم الليلية لبيوت المواطنين العراقيين، وكي يُحدث شيئا من التوازن مع منظر العراقيين المحتفلين في الشوارع بعد كل عملية للمقاومة، وقد تم لهم مثل هذا الأمر، حينها، على غير صعيد.
في المشهد الفلسطيني مثلا، ثمة وفرة في مشاهد المقاومة والانتصار، ولكن شاشاتنا العربية عموما لا تهتم كثيرا بإبرازها والتشديد عليها. من هنا حين تحدث نصر الله، آنذاك، لفت نظر الإعلاميين العرب والمسلمين الذين حضروا مؤتمرا كان مخصّصا لدعم الانتفاضة (أيام كانت هناك انتفاضات) إلى أهمية إبراز صورة الفلسطيني المظلوم بجانب الفلسطيني المقاوم، محذرا من خطورة التركيز على صورة المظلومية على حساب المقاومة، أو الضحية على حساب البطل. وهو برؤيته هذه يلامس أرفع معايير التقنية الإعلامية الحديثة التي تجهد العقلية الإعلامية الأميركية في الوصول إلى تخومها، كجزء من الحرب التي يشنها إعلامهم ضدنا، ونتلقاها نحن ببلاهة، ونسارع لبث كل ما تقذفه في وجوهنا وكالات أنبائهم، دونما إعادة إنتاج لتتفق مع كوننا الجهة المحارَبة.
الفلسطيني، والعربي عموما، ليس ضحية فحسب، بل هو مقاوم ومناجز، وغير ممتثل للذل 
والاحتلال، ولئن أفادت صورته ضحية ومظلوما في استدرار عطف الآخرين، فلا بد من حضور صورته مهاجما ومُوقعا للأذى في صفوف العدو (غزة مثلا)، لشحذ الهمم وبعث الأمل في نفوس الناس، في مواجهة النادبين الدائمين لهذه الأمة، الناعقين بالخراب أبدا، والمتخصصين في نعيها وإعلان موتها كل يوم. والمتابع لما تنشره صحافة العدو الصهيوني يلمس حجم الألم الذي تسببه المقاومة لهم، و"لئن تكونوا تألمون، فهم يألمون مثلنا، ولكننا نرجو من الله ما لا يرجون".
نحزن ونأسى مثلا على رؤية شاب عربي يرتدي ملابس عربية، وينتمي لبلد عربي، ويتحدّث بلسان عربي مبين، يطل علينا متغزلا بالعدو الصهيوني، وهو يحل "ضيفا" عليه، متمنيا كل الخير لـ "شعب إسرائيل". ولكننا نشعر بالفخر والفرح حين يرجمه أطفال فلسطين بالأحذية، وهو يحاول عبور أزقة القدس متسللا، بحجّة الصلاة في الأقصى الشريف، فتلك هي مكانته التي تليق به، والرد عليه من أطفال القدس هو الجانب المشرق للصورة البائسة. هذا يعني أن ثمّة وجها آخر للمشهد، علينا أن نبحث عنه. ومن هذا الباب علينا أن نتذكّر أن أمتنا مرت بحقب تاريخية أكثر سوادا مما نحن فيه، ولكنها نهضت ونفضت عنها ثياب الذل والهزيمة، واستأنفت حياة الكبرياء والعنفوان. وما دمنا اليوم قد وصلنا إلى قاع القاع، فلا بد أن تبدأ رحلة الصعود، وهي آتيةٌ لا ريب فيها، ولكن بشرط أن لا نستسلم لحالة الخذلان الآنية التي نعيشها اليوم.