المغرب.. قوانين بدون سياسة

المغرب.. قوانين بدون سياسة

25 يوليو 2019
+ الخط -
صادق مجلس النواب المغربي، يوم الإثنين الماضي، بالأغلبية، على مشروع القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي. وأثارت المصادقة سجالا واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي، ليس فقط بسبب ما تضمّنه المشروع من مقتضياتٍ تخص الوضع اللغوي في المغرب، بل لأن حزب العدالة والتنمية، الذي يقود الحكومة، صوّت على المشروع الذي ينص على ''التناوب اللغوي'' الذي يعزّز موقع الفرنسية في تدريس مواد علمية وتقنية، في خروج دراماتيكي عن مرجعيته الإسلامية التي تعتبر العربية أحد المكونات الأساسية للهوية والثقافة المغربيتين. وهذا الانقلاب في سلوك الحزب الإسلامي يعيد إلى الواجهة سؤال الأحزاب في المغرب، ودورها المفترض في تحديث الممارسة السياسية، والدفع بها، لتكون رافعةً لمشروع ''التحول الديمقراطي'' الذي يبدو أنه يراوح مكانه منذ انطلاق نسخته الثانية في 2011. وفي الوسع القول إن ما حدث يوم الإثنين خلطٌ للأوراق في مشهد حزبي وسياسي.
لا يسائل التصويتُ ''السلبيُّ'' لحزبي العدالة والتنمية، والاستقلال، على هذا المشروع، فقط، جدل المرجعية والأداء لدى الحزبين المحافظين، بل يستدعي، كذلك، افتقادَ معظم الإنتاج التشريعي المغربي ضراوة الصراع السياسي والاجتماعي. هذا طبعا إذا افترضنا أن تركيبة البرلمان المغربي تعكس، ولو في حدود ضيقة، هذا الصراع، سيما في القضايا الخلافية التي ينقسم فيها المجتمع، وتتطلب، بالتالي، البحث عن توافقات مجتمعية بشأنها.
تتجاوز الأزمة التي تتخبط فيها منظومة التربية والتكوين المغربية سجال التعريب أو الفرنسة، لأنها أزمةٌ بنيويةٌ ترتبط بأسئلة الديمقراطية والتنمية والتحديث والعدالة الاجتماعية والمجالية، فلا خطاب الفرنسة، باعتباره خيارا اجتماعيا وثقافيا يحتضنه اللوبي الفرنكوفوني المتغلغل في دوائر الاقتصاد والمال والإعلام، وتدعمه نُخبٌ وقوى قريبة من السلطة، قادر على وقف نزيف هذه المنظومة، ومعالجة أعطابها المزمنة، ولا خطاب التعريب، بدوره، قادر على إحداث الفارق، في ظل افتقاده رؤيةً متوازنةً تنزع عن العربية هالة القداسة، وتدفع بها نحو مختبرات التطوير، وتستوعب رهانات العولمة، وتحدّياتها الثقافية الكبرى.
تتطلب هذه الأزمة فتح نقاش عمومي واسع، يستوعب مختلف الاجتهادات والتوجهات والرؤى المتدافعة، ويُسمع فيه لأهل الاختصاص والخبرة. وينبغي أن تلعب مؤسسات الوساطة والتأطير دورا مفصليا في إغناء هذا النقاش وتوسيع هوامش التفاوض بشأن القضايا الخلافية، في أفق الانعراج به نحو تسوياتٍ أو توافقات معينة. وبموازاةٍ مع ذلك، على البرلمان أن يُجسّد طورا آخر لهذا النقاش، من خلال استيعابه وإعادة صياغته في قوانين تعكس ما يعتمل داخل المجتمع من تجاذبات.
في البلدان الديمقراطية، يعكس أداء البرلمانات الصراع الاجتماعي والسياسي، وتحاول الطبقة السياسية إدارة تناقضاته، سيما في القضايا التي تكون مثار استقطابٍ مجتمعيٍّ حاد. وبالتالي تَصدر القوانينُ بعد مخاضٍ عسيرٍ، تتدافع فيه البرامج والمصالح والاجتهادات، في ظل وجود أحزابٍ سياسيةٍ حريصةٍ على المواءمة الفعالة بين مرجعياتها وأدائها، فالتزام الأحزاب بهذه المرجعيات هو الذي يمنحها الحد الأدنى من المصداقية، ويصون علاقتها بقواعدها وأنصارها، وإلا فما المانع من أن يُصوّت حزبٌ يساريٌّ، مثلا، على مشروع قانون لخوصصة الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، أو أن يصوّت حزبٌ يمينيٌّ ليبراليٌّ على تأميم المقاولات والشركات الكبرى؟
حين لا تعكس القوانين ضراوة الصراع السياسي والاجتماعي، تفقد السياسة معناها ومصداقيتها، وتتكشف الثقوب الكبرى التي عادة ما تجتهد النخب الحاكمة في البلدان غير الديمقراطية في الالتفاف عليها، من خلال تسويق أنظمةٍ هجينةٍ تأخذ من الديمقراطية شكلها المؤسّسي (تعدّدية حزبية شكلية، انتخابات، برلمان..)، ومن الاستبداد صلابته ومقاومته كل أشكال التغيير.
يبدو القانونُ الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي مفتقدا قيمته السياسية، كما لو أن الأمر يتعلق بتوصيةٍ أو تقريرٍ أنجزه أحد مراكز البحث والتفكير. وبذلك يعيد هذا القانون طرح سؤال النخب المغربية، بمختلف تشكيلاتها، سواء على صعيد موقعها من الديناميات التي تُحرّك المجتمع المغربي، أو تواضعِ إسهامها في تحديث الحقلين، الحزبي والسياسي.