لمّا خلت المدرّجات من جماهير الكرة

لمّا خلت المدرّجات من جماهير الكرة

24 يوليو 2019
+ الخط -
انطلقت بطولة كأس الأمم الأفريقية في شهر يوليو/ تموز الجاري في القاهرة في حفل اعتبره مراقبون شديد البذخ، مقارنة بالإمكانات الاقتصادية وأعباء الديون التي تثقل الحكومة المصرية، وخصوصا أن الرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، يواظب على تكرار عبارات يشكو فيها من قلة القدرات المالية للدولة، ولكن العالم فوجئ بإنفاق السلطة ما يزيد عن 40 مليون جنيه على حفل قرعة الكأس فقط، فضلا عن نحو 25 مليون دولار إجمالي تقديرات تكلفة تنظيم البطولة. ولكن الإشكال ليس في المفارقة بين حجمي الإنفاق والاحتياج في قطاعات أخرى، بل أيضا في تصور "المشجع المثالي" لدى اللجنة المنظمة للبطولة. وهذا "المثال" ليس فقط المواطن الذي يمكنه سداد 150 و300 و600 جنيه مصري في مباريات المنتخب الوطني، بل يحمل صفاتٍ شخصية وسلوكية معينة، تستهدفها المنظومة الأمنية، وتحارب بها النموذج التقليدي للمشجع. وتشمل هذه الصفات، من دون حصر، تسامح المشجع المصري مع عشرات التوجيهات والمحظورات الأمنية داخل المدرّج، بداية من شكل التشجيع وهتافاته وأدواته إلى الأزياء التي ينبغي أن يكون منها تيشرت التشجيع والأعلام وسائر "المبيعات" التي تُضاف إلى إيرادات البطولة، فضلا عن التحرّكات من قيام أو قعود أو غيرهما. وتشمل التسامح مع أخطاء المنتخب الوطني، والتعامل الهادئ و"الراقي" مع الفشل وتراجع الإنجاز، وتقبل قيود التحكم والرقابة على ردود أفعال التشجيع بصدر رحب.. وربما في مشهد ترحيب "المشجّعات" بعودة اللاعب "المتحرّش" نوع من "المزايدة" على منطق "التسامح" المذكور، بمعنى أننا مستعدون للتساهل والتنازل عن أي شيء.
يجرّ هذا إلى الذاكرة مقارنة مشاهد التشجيع في مدرجات البطولة بمشاهد منذ سنوات قليلة لمشجعي "تالتة شمال"، الذين لا يتوقفون عن القفز والصراخ والهتاف كل لحظة منذ بدء المباراة إلى نهايتها. مَن تخاف فرق الكرة منهم إذا لم تأت بالنصر، لأنها تعلم أن ردود الأفعال لن تنحصر في السباب ورمي القمامة بوجوه اللاعبين، بل تتعدّى إلى "الاشتباك" المباشر 
معهم، وتلقينهم "درسًا" كي لا يعودوا إلى الساحة الخضراء من دون استعداد كاف. هؤلاء المشجعون هم من جاءوا بالنصر في البطولات السابقة، واختفوا هذه المرة.. استهدفتهم الدولة منذ مذبحة الاستاد في بورسعيد التي راح ضحيتها 74 مشجعاً عام 2012، منهم قصّر وحديثو السن، واستهدفت منافسيهم في مذبحة استاد الدفاع الجوي عام 2015، وقيّدت دخولهم إلى المدرجات، وتأففت من ثوراتهم المتواصلة على أسعار التذاكر، حين زادت من 20 جنيها إلى 50 جنيها، فكان العقاب أن يكون السعر 150 جنيها حدا أدنى. اعتبرتهم "غير لائقين" للظهور في الكاميرات والبث المباشر أمام العالم، كونهم فقراء، واعتبرتهم عبئًا على الاستادات "النظيفة"، "الغالية" التي أنفقت في واحد منها 40 مليون جنيه عام 2017. وضعت بوابات إلكترونية وأجهزة للكشف عن "الشماريخ" التي كانوا يشعلونها لتشعل الحماسة، وضمنت أن يكون الجمهور الحاضر في البطولة، هذه المرّة، جمهورا لا يسب النظام ولا أجهزة الأمن، ولا يعترض على أي شيء، في مقابل دخوله إلى المدرجات.
هؤلاء المشجعون الذين يكسرون المقاعد على رؤوس اللاعبين إذا فشلوا أو تخاذلوا، هؤلاء الذين لا يقبلون إهانة ولا انتقاصاً من "حقهم" في الفرح، كانوا هم ضمانة الفوز في البطولات السابقة. ولأن نموذج "المشجع المثالي" لا يزال قليلا، يكاد يندثر بين أبناء الطبقة العليا (الأقلية) والدنيا (الأغلبية)، بعد سياسات التقشّف العنيفة التي اتبعتها الحكومة المصرية منذ قرار تعويم الجنيه عام 2016، خلت المدرجات من المشجعين، حتى في مباريات المنتخب الوطني، فالأسرة التي تملك 750 جنيها لخمس تذاكر في إحدى المباريات، سوف تتخلى عن نصف طعامها شهرًا بعد المباراة، ولن تحضر غيرها، كون مصر تقع في تصنيف الدول ذات أدنى دخل متوسط عالميا، بتصنيف البنك الدولي، إذ متوسط دخل الأسرة المصرية يزيد قليلا عن 995 دولارا، وأقل كثيرا من 3.895 دولارا سنويا، ما يعني أن متوسط الدخل لا يزيد عن 3.464 جنيها، وتكلفة تذاكر المباراة الواحدة لأسرة من خمسة أفراد تقارب نصف الإنفاق الشهري على الطعام، والذي يشمل 40% من دخل عموم المصريين.
هذه هي الأثمان التي لم تحسبها حكومة "الأغنياء".
سناء االبنا
سناء االبنا
سناء البنا
كاتبة وباحثة مصرية في الاجتماع السياسي
سناء البنا