عندما يتجدد نقاش المسألة اللغوية في المغرب

عندما يتجدد نقاش المسألة اللغوية في المغرب

24 يوليو 2019
+ الخط -
عادت المسألة اللغوية في المغرب إلى إثارة الجدل داخل الساحة السياسية، وتحولت إلى موضوع لنقاش سياسي وأيديولوجي حادّ، ما بين أنصار اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، والمجسّدة للهوية والثقافة المغربيتين، والمدافعين عن حضور اللغة الفرنسية، لغة المستعمر، لتكون أساسيةً في تدريس بعض مناهج التعليم في المغرب. وعلى الرغم من أن هذا النقاش لم يصل بعد إلى مرحلة الاستقطاب الحادّ داخل الرأي العام المغربي، إلا أنه تحول إلى موضوع للصراع السياسي بين الأحزاب السياسية وهيئاتٍ من المجتمع المدني.
وبات اليوم واضحاً ملاحظة الخلاف الكبير الذي برز إلى العلن داخل البرلمان في أثناء التصويت على قانونٍ يسمح بتدريس بعض الموادّ العلمية (الرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية والمعلوميات) باللغة الفرنسية بدلاً من اللغة العربية، مع العلم أن بعض المدارس بدأت فعلاً تدريس هذه الموادّ في مناهجها التعليمية باللغة الفرنسية، حتى قبل أن يدخل القانون الجديد حيز التنفيذ. وكان من نتائج التصويت على هذا القانون، وما رافق ذلك من جدل، بروز خلاف حادّ بين المؤيدين للإبقاء على العربية لغةً أساسيةً في التدريس، مع الانفتاح على باقي اللغات الأجنبية لإتقانها واكتساب مَلَكَتها. وأصحاب هذا الطرح يمثلهم الحزب الإسلامي الذي يقود الحكومة، مدعوماً من حزب وطني محافظ وهيئات مدنية تدافع عن الهوية والثقافة المغربيتين. وفي المقابل، من يدافعون عن اعتماد الفرنسية لغة لتدريس الموادّ العلمية ممثلون في أحزاب سياسية تصف نفسها بالليبرالية، وأخرى يسارية مدعومة بلوبيات داخل أوساط المال والأعمال والاقتصاد، وما يجمع بين هذا الخليط من أصحاب المصالح هو قربُهم من السلطة، ما يوحي بأن السلطة المركزية في المغرب، أو ما يوصف بـ"الدولة العميقة" 
تصطفّ إلى جانب من يريدون إحلال الفرنسية مكان اللغة العربية في المناهج التعليمية المغربية. وما يخشاه أكثر مناوئي القانون "الإطار" الذي صادق عليه البرلمان أن يكون فقط بداية لمشروع أكبر، هو فرنسة التعليم في المغرب، لأن ما سيتفرّع عن هذا القانون غدا من قوانين تنظيمية، لا يمكن التنبؤ بما قد تحمل معها من مفاجآت، يجعل المتخوفين من خفايا هذا القانون أمام مشروع كبير، له أبعاد سياسية وثقافية وفكرية كبيرة يجهلون مخاطرها اليوم.
والمفارقة أن الحزب الإسلامي الذي يقود الحكومة، وفي الوقت نفسه، يقود المعارضة ضد هذا القانون، كان من بين من صوّتوا عليه داخل البرلمان، ما أدى إلى استقالة رئيس كتلته النيابية من منصبه، وتنديد زعيمه السابق، عبد الإله بنكيران، بموقفه المتذبذب الذي وصفه بأنه "فضيحة" لحزبٍ يدّعي أن مرجعيته إسلامية، وفي الوقت نفسه، يفرّط في اللغة العربية التي تعتبر أحد أهم الأسس التي تقوم عليها هويته الأيديولوجية. وتداعيات تصويت هذا الحزب على قانون يجاهر بمعارضته ما زالت في بداية تفاعلاتها، ما ينبئ بأنها ستترك أثارها عميقةً داخل تنظيماته، وستؤثر لا محالة، سلباً، على موقف كتلته الناخبة المحافظة منه.
وقد أدّى الخلاف السياسي المحتدم بين الأحزاب السياسية داخل البرلمان بشأن القانون الذي تم التصويت عليه، وما رافق ذالك من خلافٍ حادّ داخل صفوف بعض الأحزاب، كما هو شأن الحزب الإسلامي الذي يقود الحكومة، إلى تغليب البعد السياسي على الجدل القائم حالياً حول اللغة، على حساب الأبعاد الأخرى الثقافية والبيداغوجية، عكس ما كان يحدث في الماضي، عندما كان يطرح مثل هذا النقاش في المغرب بشأن لغة التدريس، حيث كان البعد العلمي حاضراً بقوة في تناول مسألة اللغة، على الرغم من انطلاق أنصار اللغة العربية من قناعاتٍ وطنية، كان يفرضها السياق آنذاك، فليس هذا النقاش جديداً في المغرب، بما أنه يعود إلى السنوات الأولى من استقلال البلاد. وعلى الرغم من عقود الاستقلال الستة، ما زال المغرب متردّداً في الحسم في اختياره اللغوي، وهو ما يفسر حالة الارتباك والتخبط التي يعيشها التعليم في المغرب، والمستوى المتدني الذي يوجد عليه، بالإضافة إلى انعكاس هذا كله على حالة التمزق اللغوي والهوياتي داخل المجتمع المغربي.
وما أخّر ويؤخر حلّ مسألة الاختيار اللغوي في المغرب هو تغليب الطابع السياسي عند تناول 
هذا الموضوع، ما يحوله إلى موضوعٍ للاستقطاب الأيديولوجي بين أصحاب مصالح متضاربة، والضحية في كل الحالات هو الشعب المغربي الذي كتب عليه، منذ استقلال بلاده، أن يعيش تمزقاً لغوياً، بكل ما لذلك من انعكاسات سلبية على هويته وثقافته وقيمه. فاللغة، كيفما كانت، ليست وعاءً فارغاً، وإنما هي حاملة ثقافة وهوية وقيم. والجانب الخفيّ اليوم من الصراع حول اللغة لا تحرّكه فقط الأبعاد البيداغوجية، بهدف تطوير المنظومة التعليمية المتخلفة، ولا يحمل في طياته خياراتٍ مبنيةً على قناعات فكرية قوية، للتأسيس لهوية مغربية مغايرة أو جديدة، ولا يضع نصب عيون من يقفون خلفه مشروعاً متكاملاً لنهضةٍ مغربيةٍ مقبلة. الخوف الكبير أن هذا النقاش الذي بدأ سياسياً أن ينتهي سياسياً كذلك، يغذّيه الصراع العميق القائم بين هيمنتين: هيمنة اللوبي الفرنسي المتحكم في دواليب الاقتصاد المغربي، مدعوماً بالدولة العميقة، وهيمنة جزء من التيار الإسلامي اللاهث وراء أصوات الناخبين لأسباب أيديولوجية، ومن أجل مصالح شخصية وفئوية ضيقة. والغائب الأكبر في هذا النقاش هو الشعب المغربي، الفاقد إرادته السياسية، الذي يريد بعضهم تحويله إلى "فئران تجارب" لغوية، وينفخ فيه آخرون للركوب عليه كحصان طروادة في سباقه الانتخابي، من أجل كسب المقاعد واحتلال المناصب.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).