روسيا ودبلوماسية الكذب

روسيا ودبلوماسية الكذب

24 يوليو 2019
+ الخط -
أن يتحوّل الكذب، الفاضح، أداة دبلوماسية وتفاوضية، فذلك أمر يثير الاستغراب والدهشة، ذلك أن التصريحات الدبلوماسية، بخلاف الإعلام الموجه إلى فئات وشرائح محدّدة، وبغرض ترويج سياساتٍ بعينها، حيث يسهل تمرير الأكاذيب، بل إنها تصبح مطلوبةً من الجماهير المتلقية لتثبيت سرديتها عن الحدث السياسي الذي تؤيده. الأمور في الدبلوماسية مختلفة، فالمعلومات يجري فحصها بدقة شديدة، ولدى كل طرف طرقه ووسائله للوصول إلى المعلومة الصحيحة، وبالتالي من الصعب على الطرف المقابل تمرير الأكاذيب، والإفادة منها بوصفها معطيات قابلة للتصديق.
مناسبة هذا الحديث المعلومات التي أدلى بها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مؤتمره الصحافي مع نظيره الإيفواري، مارسيل آمون تانو، إن عدد اللاجئين السوريين الذين عادوا من الأردن بلغ 210 آلاف لاجئ، وذلك في إطار تعليقه على قول نظيره الأميركي، مايك بومبيو، إن التعاون العسكري الروسي - الإيراني في سورية أدى إلى نزوح حوالي ستة ملايين سوري من بلادهم. لم يكتف لافروف بالقول إن معلومات الوزير الأميركي غير حقيقية، وتساءل عن الجهة التي زودته بمثل هذه المعلومات، ونصحه بمتابعة البيانات اليومية التي يصدرها المركز الروسي للمصالحة في سورية، والتي تقدم الإحصائيات الخاصة باللاجئين العائدين، وتروي عن الإجراءات التي تقوم بها روسيا دعما لجهود تهيئة الظروف المواتية 
لعودة جميع اللاجئين، كتزويدهم بالمياه والكهرباء والخدمات الاجتماعية والتعليم!
لا يخفي هذا المركز ذو الطابع الاستخباراتي، المسمّى مركز مصالحة، انحيازه المطلق لنظام الأسد وعداءه للمعارضين، أفراداً وفصائل ومجتمعات محلية، بدليل أنه قام بهندسة المصالحات التي أنجزها باستخدام أسلوب الأرض المحروقة، وتجريب مختلف أصناف الأسلحة الروسية على جسد تلك المجتمعات، وعبر تدمير عمرانها وبناها التحتية. وبالتالي، يستحيل على جهةٍ تحترم نفسها بالحد الأدنى، اعتماد بيانات هذا المركز بوصفها معطياتٍ يمكن على أساسها صناعة قرارات سياسية.
وللمصادفة، تزامنت تصريحات لافروف مع نشر صحيفة الغد الأردنية مقالة عن تفكيك مخيمات اللاجئين في سورية، ونشر صحيفة البايس الإسبانية تقريرا بعنوان "هكذا يعيش اللاجئون السوريون في الأردن"، ويريد فيهما أن عشرين ألف سوري فقط هو عدد اللاجئين العائدين من الأردن، بحسب الحكومة الأردنية والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. كما أن القائم بأعمال سفارة نظام الأسد في الأردن، أيمن علوش، اشتكى من قلة عودة اللاجئين السوريين من الأردن، واتهم الدول المتآمرة على سورية بالاستثمار باللاجئ السوري، وتعطيل عودته، بطرق مختلفة، منها مثلاً، والكلام لعلوش، السماح للاجئين في المخيمات بالخروج منها والحصول على تراخيص عمل! وكأن المطلوب من الأردن محاصرة اللاجئين السوريين وقطع الطعام والماء والكهرباء عنهم حتى ينهوا لجوءهم إلى الأردن. وقد نشرت تصريحات علوش في 29 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران 2019)، بمعنى أنها سبقت تصريحات لافروف بعشرين يوماً، ومن المستحيل أن يكون عدد اللاجئين العائدين قد قفز في هذه المدة القصيرة ليصل إلى مئتين وعشرة آلاف؟ وهنا يحق لبومبيو نصح زميله الروسي بمراجعة مقابلة علوش هذه.
وأكبر من الكذب بشأن أعداد اللاجئين السوريين، ادعاء لافروف أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تبنّيا "موقفا أيديولوجيا شديد التحيز" إزاء مسألة هؤلاء، وأنهما يرفضان الاستثمار في مشاريع ترمي إلى تسهيل عملية عودتهم إلى أراضٍ تخضع لسيطرة الحكومة السورية، فأين هو التحيز الأيديولوجي في استقبال اللاجئين، وهل التحريض على طردهم ليس تحيزاً أيديولوجيا، تماماً مثلما يأخذ علوش (القائم بالأعمال) على السلطات الأردنية إصدارها تراخيص عمل للاجئين ليعيلوا أنفسهم وأولادهم، بعد أن يؤكّد أن الأمم المتحدة قد خفّضت من حجم مساعداتها لهم؟
ولكن لماذا الاستغراب؟ ألم يقل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إن اللاجئين السوريين في 
أوروبا يقتلون ويغتصبون من دون عقاب، وهم محمّيون قانونياً؟ والأكثر من ذلك؛ ظل لافروف سنواتٍ وهو يعيّر الغرب بأن لديه أهدافاً "ألعاباً" جيوسياسية في سورية، ويدعوه إلى التخلي عنها من أجل إيجاد حل سياسي للأزمة، في وقت كانت روسيا تبني أساسات مشروعها الجيوسياسي في سورية على رؤوس الأشهاد، عبر السيطرة على موانئ البلد ومطاراته، ومناجم فوسفاته ونفطه، أم أن مفهوم الجيوسياسية عند لافروف هو خلاف هذه التفاصيل؟
اللافت أن لافروف يوظّف هذه المعطيات، في مساوماته مع الدول الغربية، فروسيا تسعى جاهدة إلى تسويق مبادرة إعادة الإعمار في سورية، لمصلحة شركاتها، وإقناع الدول الغربية بالمساهمة في هذا المشروع. بالطبع، فشلت المبادرة فشلاً ذريعاً، ولم يستجب أحد لها، وكان فشلها طبيعياً، إذ يصعب أن تصدق دول العالم الأكاذيب، إذا كانت ستدفع مقابلها أموالا. يمكن أن تتعامل معها بوصفها طرفة، لكن أن تدفع على أساسها أموالا وتقيم استثمارات، فذلك لا يصدقه أحد، باستثناء الوزير لافروف.
والغريب أنه في زمن الفضاءات المكشوفة والمعلومات السائلة والمتوفرة لكل شخص عبر الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة، ما زال بعضهم يعتقد أن في الوسع تمرير الأكاذيب بوصفها حقائق؟ وما زالت أنظمة القمع تستخدم أداة الكذب وسيلة لإقناع الناس بما لا يقبله العقل والمنطق، كما تفعل وسائل إعلام روسيا وإيران، بشأن سورية مثلاً.
5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".