عبد الوهاب المسيري.. مُثقفاً حقيقياً

عبد الوهاب المسيري.. مُثقفاً حقيقياً

03 يوليو 2019
+ الخط -
تمرّ اليوم الذكرى الحادية عشرة، لرحيل المُفكِّر والباحث عبد الوهاب المسيري، صاحب أحد أكبر الأعمال الموسوعية العربية في القرن الماضي "اليهود واليهودية والصهيونية"، الذي رحل في 3 يوليو/ تموز 2008 بعد صراع مع المرض الذي لم يستطع أن يهزم توهّجه الروحي، وتألّقه الفكري، فظلّ حتى النهاية قادراً على البذل والعطاء، ومواصلة السعي والنضال. 
مثّل المسيري ظاهرة فكرية وثقافية وإنسانية فريدة، ونسخة استثنائية متفرّدة قلما تتكرّر، لم يكن مجرّد أكاديمي عادي عاكف على تخصّصه، وإنما كان سبيكة فذّة التكوين والتركيب، اجتمع فيها المفكِّر الفذّ بالمثقف الموسوعي صاحب الاهتمامات المعرفية المتعددة، بالمحلل لمختلف الظواهر السياسية والاجتماعية، بالمُنظِّر الشامل، بالباحث المتعمّق، بالمناضل السياسي، بالناقد الأدبي، بصاحب الحسّ الجمالي الإنساني، إلى جانب أنه صاحب مدرسة مستقلّة في التأصيل المنهجي، والتجديد المعرفي، والابتكار التحليلي، والإبداع المفاهيمي، فضلاً عن قدرته الفائقة في مخاطبة جميع الفئات العمرية والعلمية، فقد كان يكتب للخاصّة، بالقدر نفسه الذي يخاطب به العامّة إلى درجة أنّه كتب للأطفال.
عرف الفضاء العام المصري خلال العقود الماضية أنواعاً عديدة من المُثقفين، منها المُثقّف السلطوي الذي يدور مع السلطة حيث دارت، ولا يستطيع العيش بعيداً عنها، والمُثقف الأيديولوجي الذي يتعصّب لانحيازاته الأيديولوجية، والمُثقف الحزبي الذي يسخّر قدراته الفكرية لخدمة انتماءاته الحزبية، والمُثقف "الشللي" الذي يطبّل ويعزف لـ"شلّته" ما تشتهيه من ألحان، بيْد أن المسيري قدّم نمطاً فريداً هو المُثقّف الوطني، صاحب الخطاب العابر لضيق الانحيازات الأيديولوجية والحزبية إلى سعة المصالح الوطنية.
قدّم نموذجاً حيّاً للمُثقّف الحقيقي الذي عرّفه الفرنسي جوليان بيندا صاحب كتاب "خيانة 
المُثقفين"، بأنه الذي لا يسعى بثقافته وراء أيّ غرض مادّي، وإنما يجد تحققه وسعادته في ممارسة الفنّ أو العِلم أو الاستقصاءات الفلسفية. المُثقف الذي يقدّم المبادئ على المصالح، ويحترم عقله وفكره، ويقوم بواجبه تجاه الوطن، فلا يتحرّك إلا وفق قناعاته الفكرية وقيمه الأخلاقية، ولا يكون انحيازه إلا لقضايا أمّته، فهو يسخّر قدراته المعرفية والفكرية لخدمة أولويات وطنه السياسية والاجتماعية والحضارية، ليجعل من قلمه صوتاً للمستضعفين والمظلومين، في وجه أصحاب المصالح من أرباب الفساد والاستبداد، ويدافع عن حقّ الجماهير في حرية الاختيار، من دون قيود سلطوية أو وصاية نخبوية، حتى لو دفع الثمن من قوته وحريّته.
كان عبد الوهاب المسيري نموذجاً لما سماه غرامشي "المثقف العضوي"، وهو المُثقف الذي يلتحم بالجماهير ويُعبّر عن أحلامها وتطلّعاتها في العدل والحرية. وقد دفع ثمناً باهظاً لمواقفه الوطنية المشرّفة في مواجهة السلطة، وكان في وسعه أن يظلّ صامتاً (لا نتحدث هنا عن الطبالين والزمارين من المثقفين)، ليرفل في نعيمها، كما فعل أدعياء ودجّالون كثيرون، ولكنه اختار الخيار الصعب، وآثر المعارضة السلمية، معرّضاً نفسه لبطش نظام حسني مبارك الذي رفض الإنفاق على علاجه بعد إصابته بالسرطان، ومنعه حقّه في العلاج على نفقة الدولة، على الرغم من تقدّمه بطلب رسمي، في وقت كان يُغدق فيه العطاء على لاعبي كرة القدم وأهل الفنّ. وفي يناير/ كانون الثاني 2008، وفي خلال تظاهرة الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) في ميدان السيّدة زينب، وكان المسيري منسّقها العام، في ذكرى تظاهرات يناير 1977، تعرّض مع آخرين للخطف على أيدي رجال أمن وضعوه في سيارة، وذهبوا به إلى صحراء مدينة نصر وتركوه فيها، من دون مراعاة لسنّه ومرضه أو لمكانته العلمية والفكرية.
مرّ المسيري بتحوّلات فكرية كبيرة، انتقل خلالها من دائرة الفِكر المادي الماركسي مستقّراً في دائرة الإسلام الحضاري (يختلف عن دائرة "الإسلام الحركي"، القائم على الجماعات والتنظيمات المعروفة بإفلاسها، وهزالها، وفقرها، وجمودها الفكري)، وقد تحدّث عن هذا تفصيلاً في كتابه "رحلتي الفكرية.. في البذور والجذور والثمر". واعتنى أيمّا عناية بقضيّة الهويّة الحضارية للمجتمع، وأكّد ضرورة احترامها، وأنّ الإنسان الذي لا هويّة له لا يمكن أن يُبدع، لأنّه ينظر إلى العالَم بمنظار الآخرين، ومن ثمّ يصير تابعاً لهم، كل همّه أن يقلدهم، مشددّاً على خطورة فصل الدين عن الحياة، وفصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن كل جوانب الحياة العامة والخاصّة، وهو ما تدعو إليه العلمانية الشاملة التي تهدف إلى تحويل الإنسان إلى مادّة استعمالية، وكائن استهلاكي ذي بُعد واحد، بعد تجريده من أيّ قيمة. وهاجم الداعين إلى قطيعة معرفية مع تراثنا الفكري والحضاري، مؤكداً هشاشة تصوراتهم واختزاليتها، كاشفاً عن عوارها الفكري والمعرفي.
يُمثّل المسيري النقيض الموضوعي، بشقيْه الأخلاقي والفكري، لـ "مُثقّفي الحظيرة" من رجال 
كلّ العصور، وأذناب كلّ العهود، الذين هتفوا بكلّ الشعارات، من روّاد "التنوير السلطوي" الذين يعارضون السلطة نهاراً، ويبيتون في أحضانها ليلاً، ويزعمون أنهم يستخدمون السلطة لتحقيق أهدافهم "التنويرية"، في حين أنّ الواقع يقول إنّ السلطة هي التي تستخدمهم، وتجعلهم مجرّد أبواق لها، والمسكونين دوماً بهاجس نقد الموروث (بالأدقّ نقض الموروث وهدم التراث)، من أجل تحرير العقل من هيمنة النصوص الدينية، والذين لطالما صدّعوا رؤوسنا بضرورة مواجهة "المدّ الظلامي"، في حين لم نسمع لهم همساً أو رِكزاً في مواجهة الاستبداد، أو للمطالبة بالديمقراطية، فلم يكن لهم يوماً موقفٌ يُذكر، انحازوا فيه إلى اهتمامات الناس والمطالبة بحقوقهم.
لا عجب أن تتجاهل تلك النوعية من المُثقّفين مفكِّراً بحجم المسيري، وتُكنّ له أعمق الكراهية، فمجرّد ذِكر اسمه كفيل بفضحهم وكشف زيفهم، فالرجل شدّد على ضرورة احترام الذّات الحضارية، بينما هم يحتقرونها أشدّ الاحتقار. وانحاز إلى الناس، ونزل إلى الشارع، بينما هم يقبعون في أبراجهم العاجية ومجتمعاتهم المخملية، يلوكون أفكارهم "التنويرية" الغثّة، ويسرّون، بل ويجهرون أحياناً، باحتقار الشعب وعدم أهليته للديمقراطية، ومعايرته بجهله وفقره الذين هم أحد أسبابه الأساسية.
يحتلّ عبد الوهاب المسيري بعقله الموسوعي، ومشروعه الفكري والحضاري المتكامل، ومنهجه التفسيري، ومعجمه الاصطلاحي، وسيرته المُشرِقة، منزلة رفيعة في تاريخ الفِكر العربي، تمثّل نبعاً مُلهِماً لأجيال من بعده، وإن لم يحظَ رجل بقيمته وقامته بتكريم مناسب في عصره، فإنّ التاريخ سيتكفّل بتكريمه، وتسطير اسمه بحروفٍ من نور في أكبر صفحاته، بينما سيهيل التراب على الأقزام والدجّالين.

دلالات