ابن الأرملة

ابن الأرملة

03 يوليو 2019

(لؤي كيالي)

+ الخط -
ألحّ عليه الجميع، بعد وفاة زوجته، بأن يتزوج مرة ثانية، ولكنه ظل يرفض ويكابر، وفاء للراحلة، حتى نزل عند رغبة الأولاد والبنات الذين يريدون، في الواقع، نقل مسؤولية العناية بالأب الذي تجاوز الستين بسنوات من أعناقهم إلى عنق امرأة أخرى، تحت مسمى زوجة، فهي الأوْلى بالعناية به منهم من وجهة نظرهم. وحين عرضوا عليه الزواج بأرملة لم تنجب أولادا، وفي منتصف الثلاثينات من عمرها، رفض رفضا قاطعا، وكانت لديه أسبابه، أهمها أنه كان يطلق عليه منذ صغره لقب "ابن الأرملة".
توفي والده في سن مبكّرة، وربّته أمه، وقصرت حياتها عليه. وقد كان يطلق على المرأة المطلقة أو الأرملة اسم "العزباء". وكان الناس يتوجسون منها، ويتطيّرون من سوء حظها، فلا تُدعى إلى فرح أو وليمة مولود. ولذلك، شعر، منذ نعومة أظافره، بأنه منبوذ، وقرّر أن ينتقم من العالم الذي أطلق عليه اسم "ابن الأرملة"، فأصبح ثريا بعد جهد وتعب، وانزاح عنه اللقب، وأصبح يفسح له في المجالس بين عليّة القوم. ولم يتأخر كثيرا حصوله على لقب شريف يسبق اسمه، على الرغم من أنه لم يكمل تعليمه، ولكن للمال سطوة، وسطوة المال والمنصب واللقب لم تُنسه أنه كان يوما ابنا لامرأة منبوذة. وحين أصبح أرملاً، رفض أن يتزوج من أرملة صغيرة، لأسباب كثيرة، أهمها أنه خشي أن تجلب الشؤم لماله الذي جمعه طوال عمره.
انتقص المجتمع من قيمة الأرملة، المرأة التي تُوفي عنها زوجها، فيما كرّمها الإسلام وحثّ على إنصافها، وأنصفتها أيضا القوانين الوضعية في القرن العشرين في حقوقها المالية. وقبل ذلك بقرون، اهتم الفراعنة بالأرملة، ولم ينظروا لها إلا أنها امرأة سيئة الحظ لا أكثر، ولذلك عثر على بردية قديمة، كتب فيها الحكيم المصري أمنموبي: إذا وجدت أرملة تمد يدها، وتأخذ من حقلك، لا تقبض عليها، تجاوز عما فعلت".
لا أحد يستطيع أن يغطّي بغربال مآل حال الأرملة، حين تصبح وحيدة، خصوصا حين يموت الزوج الذي ينفق عليها وعلى أولادها. وخرجت الأمم المتحدة بإحصائية مخيفة عن 115 مليون أرملة في العالم حتى العام 2013، وبأن هذا العدد ازداد بوتيرة سريعة بدءاً من 2013 حتى 2018، وبأن هناك ما يزيد عن نصف العدد من الأرامل اللواتي يعشن في حالة فقر قد تعرّضن للاعتداء البدني، فيما تعرّض النصف الآخر لاعتداء نفسي عن طريق تزويج الشابات منهن برجالٍ في عمر آبائهن، أو إجبارهن على الزواج من شقيق الزوج المتوفى؛ حرصا على الأولاد والميراث.
على الرغم من تخصيص يوم عالمي للأرامل، تظلّ سطوة المجتمع على هذه الحلقة الضعيفة من المجتمع قائمة، إلى درجة أن أطلق اسم الأرملة السوداء على أنثى نوعٍ من العناكب السامة، وروّج العامة أن أنثى العنكبوت هذه تلدغ زوجها وتقتله، بعد أن يلقحها، ولكن الحقيقة العلمية غير ذلك تماما؛ فهي قليلا ما تلجأ إلى التهام الذكر بعد أن تنجب، إذا ما أصيب الذكر بالوهن، خصوصا أن حجمه أقل بكثير من حجمها، لأسباب بيولوجية بحتة. وتعيش الأنثى التي تتميز بلونها الأسود أكثر من الزوج، فالذكر لا يتعدى عمره الشهر، ولكن الأنثى تعيش ثلاث سنوات، وتحمّل مسؤولية العناية بالصغار. أما الزوج القصير العمر فلونه فاتح، كما أنه لا يمتلك مهارة الأنثى في اصطياد الفرائس من الحشرات والتهامها.
الأرملة السوداء امرأة تتّشح بالسواد طوال حياتها، وتواجه شراسة الواقع الذي تركه الزوج، وغالبا ما تنجح في العبور بأسرتها إلى بر الأمان، وقد تناول فيلم "الأرامل" الأميركي (إنتاج العام 2018) قصة رائعة لاجتماع أربع أرامل، وكان أزواجهن من رجال العصابات، ولكنهن لم يستسلمن لقدرهن، ويبدأن في التآمر لسداد الديون التي تركها أزواجهن لصالح شركات إجرامية، والتآمر أيضا من أجل صياغة مستقبل أفضل بشروطهن الخاصة.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.