عن تشكيلة سياسية جديدة في تركيا

عن تشكيلة سياسية جديدة في تركيا

03 يوليو 2019
+ الخط -
قامت الدنيا ولم تقعد في تركيا، بسبب أخبار مسرّبة عن تحرّكات كوادر معارضة للرئيس أردوغان داخل حزب العدالة والتنمية (الحاكم) بشأن مسألة تأسيس حزب جديد في البلاد، بعد التعثر والأداء السيئ للحزب، خصوصا في الانتخابات المحلية أخيرا. وقد طرحت تساؤلات بشأن موعد تأسيس الحزب الجديد، ومتى من المحتمل حدوث تصدع داخل "العدالة والتنمية"، وكيف سيتدخل الرئيس اردوغان لوأد هذه المحاولات، وهل سينجح؟ يسعى المتابعون للشأن التركي الداخلي إلى إيجاد إجابات شافية لها، بالإضافة إلى سؤالٍ عما إذا كان الحزب سيتعرّض لما تعرّض له حزب السعادة، برئاسة نجم الدين أربكان، عندما انشق كل من عبدالله غول وأردوغان عنه عام 2001. وهناك مخاوف عميقة تنتاب كوادر "العدالة والتنمية" الموالية لأردوغان من احتمال تشكل الحزب الجديد، والذي لن يكون محرّكا جديدا من محرّكات السياسة الداخلية التركية فحسب، بل من المحتمل أن يلعب دورا رئيسيا في إحداث تغييرات أساسية في المسار السياسي لتركيا. ويعزز التطلعات الأداء الجيد لحزب الشعب الجمهوري (المعارض)، ونجاحه في الانتخابات البلدية أخيرا، فقد فاز وزاد نسبة أصواته في الانتخابات في المدن الكبرى بعد 15 سنة من الإخفاقات السياسية، وأثبت هذا الحزب، برئاسة كمال قلجدار أوغلو، قدرته على النجاح في المدن التي تمتلك %60 من نسبة الإنتاج القومي الإجمالي في عموم تركيا.
وبالنسبة لمسالة عودة ترويكا غول- باباجان- داود أوغلو إلى الحياة السياسية التركية، ينبغي 
تحليل كيفية وصول الحزب الحاكم إلى هذه النقطة، وسبب تأسيس حزب جديد. والجميع يعرف حرص أردوغان، منذ البداية، على تعزيز قوته الشخصية داخل الحزب باستمرار. ولكن هذه الجهود المبذولة في إحكام سيطرته داخل الحزب كان من المفترض أن تتم بعيدا عن أنظار الرأي العام التركي ومن دون ضجيج. ولذلك استمر التحالف مع الليبراليين والمثقفين الأحرار والمتنافسين داخل الحزب، حتى عام 2013 الذي بدأت فيه أحداث ميدان تقسيم في إسطنبول. واكتشف الحزب أخيرا أن التحالف مع المثقفين الليبراليين لا يمكن أن يستمر، بينما سحب هؤلاء دعمهم، بسبب الموقف المتشدد للحزب الحاكم في تلك الأحداث، فهم وامتدادهم في الحزب تم اعتبارهم عقبة كأداء أمام تعزيز قوة أردوغان ومكانته في الحزب والحكم على حد سواء، وخصوصا جماعة فتح الله غولن. وتسارعت عملية إبعاد هؤلاء الذين يمثلون الجناح المعتدل في الحزب، وكبح جماحهم، بعد تسرّب التسجيلات الصوتية في ديسمبر/ كانون الأول 2013، وأفادت بأن العملية التي أطلقتها قوات الأمن المتواطئة مع غولن، واستهدفت أردوغان ومن حوله، كانت تحمل في طياتها نواة لإنهاء أردوغان. ولكن هذه العملية جعلت مصير أردوغان مرتبطا بشكل وثيق بمصير حزب العدالة والتنمية. ولذلك يمكن القول إن العملية عززت قوته. وبدأ الجناح المتشدد داخل الحزب والحكومة يتصدّى لمناوئي أردوغان. وتم إلى حد ما قمع الأصوات التي دعت إلى مقاربات عقلانية لحل المشكلات من خلال أطر قانونية ومقاربات تصالحية. وتم تتويج هذا المسار بعد أن تمت عرقلة عودة عبد الله غول، المنتهية ولايته، إلى حزب العدالة والتنمية، ليمارس دوره السياسي مرة أخرى.
وبعد كل هذه التطورات، سلم أردوغان الحزب لأحمد داود أوغلو، المعروف بقربه من غول. واستطاع أردوغان بهذه الخطوة تمزيق صفوف المعتدلين والليبراليين في الحزب، وتهميش غول وإقصاءه عن الحزب. ولا يمكن القول إن داود أوغلو بايع أردوغان وسلّم له في جميع الأمور، بل سعى نسبيا إلى الحفاظ على المساحة المستقلة المخصصة له في منصبه. وحاول أن يجعل حركة الرئيس منضبطة في إطار القوانين، وأن يجعله يتقبل فكرة تشكيل ائتلاف مع الأحزاب المعارضة، بعد انتخابات يونيو/ حزيران 2015، ولكن استراتيجية داود أوغلو في إيجاد توازن بينه وبين أردوغان لم تنجح، وتم إجباره على الاستقالة في مايو/ أيار 2016. واختار داود أوغلو، لحساباته الخاصة، عدم مقاومة أردوغان، وبذلك تمكن الرئيس من المضي في إحكام قبضته على زمام الأمور. وواصل مساعيه المستمرة منذ عام 2003 في إحكام سيطرته على الحزب، تمت تصفية حساباته مع المعارضين والجناح المعتدل، ولم يعد في وسع أي طرف إحداث التوازن الضروري والمطلوب في الحزب. وتم استكمال وتيرة اختزال الحزب والدولة في شخص أردوغان، وخصوصا بعد فوزه في استفتاء الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي عام 2017. أما الرئيس ورئيس الوزراء السابقان، عبدالله غول وداود أوغلو، فقد أدت كل هذه التطورات إلى انسحابهما إلى الظل، في مشهد كان يبدو وكأنه قد انتهت حياتهما السياسية، أقله ظاهريا.
وبما أن من طبيعة السياسة في تركيا كثرة التقلبات التي تؤدى إلى بروز فرص جديدة، فقد تقدم اسما عبد الله غول وأحمد داود أوغلو، بعد أن اتضح أن الأحزاب المعارضة، وفي مقدمتها 
الشعب الجمهوري، لا تمكنها منافسة أردوغان، إلا بتبنّي شخصيات محسوبة على حزب العدالة والتنمية، ومختلفة مع أردوغان، تلبية لمطالب الشرائح المتدينة للمجتمع التركي. وعلى الرغم من ذلك، لم يتم تأسيس حزب جديد، بسبب بعض الأحداث في تركيا. بدلا من ذلك تقدّم داود أوغلو إلى الواجهة ببيان قبل أسابيع يوجه فيه انتقادات لاذعة إلى أردوغان وطريقة تعامله في السياسة. وتعتبر هذه الخطوة قوية لجهة الطرح الانتقادي الصريح، وتم تفسيرها مؤشرا مهما على نية مناوئي أردوغان لتشكيل الحزب المنتظر، إلا أن قرار لجنة الانتخابات العليا إعادة انتخاب رئيس بلدية اسطنبول الكبرى أدى إلى تاجيل الإعلان. ووفقا لمعلوماتٍ مسربة من مقربين من عبد الله غول، أنه أجرى اتصالات عديدة، بعد عرقلة عودته إلى الحزب منذ عام 2014، ولكنه تخلى عن هذه الفكرة بسبب التوترات في شرق البلاد، أو احتمال تفاقم الأزمة المشتعلة بين الدولة والأكراد. وتؤكد أخبار في الصحافة التركية أن الرجل لا ينوي أن ينطلق لتشكيل سياسي جديد بمشاركة داود أوغلو، وأنه أبلغ من حوله عدم رغبته في التعاون معه، خصوصا بسبب سياسات داود أوغلو الخارجية، في أثناء توليه رئاسة الوزراء. ويقال إن رغبة الاثنين في تشكيل كيانين سياسيين منفصلين.
من السهل القول إن الحزب الجديد سيكون له تأثير ايجابي على جزء من الناخبين الأتراك الأكراد، والذين يتطلعون من السياسيين تخفيف حدة هيكلية الإدارة المركزية المفرطة في البلاد، وأن تكون السياسة التركية تعددية، فهم يفكرون بأن الدولة التركية قد تريد تفعيل وتيرة المفاوضات، وأن الحكومة قد تبدى ليونة وعقلانية أكثر تجاه الأكراد، ويكون البرلمان التركي فيها فعالا، وتسير وفقا لخطط الاتحاد الأوروبي. في حين أن هؤلاء الناخبين لا يزالون يرون الرئيس أردوغان فاعلًا قويًا في مجال الحلول، ويعتقدون أنه تجاوز تلك العتبة، ومن الصعب العودة إلى حل سياسي، باستثناء في حال فرض "محور روجافا" عملية مفاوضات جديدة.
تأتي المزاعم بشأن التشكيلة السياسية الجديدة بثلاثة أسماء: عبد الله غول وعلي باباجان وأحمد 
داود أوغلو. ولدى شريحة من مؤيدي حزب الشعوب الديمقراطية تحفظ خطير بشأن داود أوغلو، حيث يتم ذكر اسمه في هذه الأوساط رئيس وزراء، نفذ سياسة معركة الخنادق والصراعات التي دمرت منطقة الأكراد. وفي مقابل ذلك، من أهم ميزات الرجل انطباعه الإيجابي في رؤية الجماعات الإسلامية النشطة التي لها قوة تشكيل كوادر وإنتاج أفكار جديدة في منطقة الأكراد. وبالإضافة إلى ذلك إمكانية استخدام التاثيرات الإيجابية لأدائه في منصب رئاسة الوزراء، وإمكانية قدرة التنظيم السريع لتشكيلة سياسية جديدة، من الميزات التي تدفعه إلى الأمام.
وقد لوحظ اهتمام كبير بعبد الله غول في المحافظات الكردية قبل انتخابات 24 يونيو/ حزيران 2015، حيث ظهر اسمه في المرتبة الأولى. ووفقا لاستطلاع أنجز في المناطق الكردية، لو دخل غول في الانتخابات الرئاسية لحصل على أصوات أكثر من رئيس حزب الشعوب الديمقراطية، صلاح الدين ديميرتاش، في حال انتقاله إلى الجولة الثانية، لأنه يمثل أسهما تناسب معايير الاتحاد الأوروبي والديمقراطية والاعتدال والرفاهية الاقتصادية. ومع ذلك، قد تفوته الفرصة في حال تأخير تشكيل حركة سياسية جديدة. بالإضافة، ووفقا لتوقعات معظم المشاركين في الاستطلاع، من المعترف به، بشكل ملحوظ، أن من غير الممكن لأي حزب لا يقوده أو لا يؤيده عبد الله غول أن يعطي شرائح المجتمع اطمئنانا، ولا يمكن أن تنشأ ثقة كافية في الجمهور الأوسع.