ابن خلدون وشبكة الفساد والاستبداد

ابن خلدون وشبكة الفساد والاستبداد

19 يوليو 2019
+ الخط -
قدّم ابن خلدون، الأستاذ في المدرسة الخلدونية، والذي يستحق عمادتها وتصدّرها، رؤى متكاملة للعلاقة المريبة بين الفساد والاستبداد؛ والتي أدخل عليها عناصر إضافية تحكم هذه العلاقة بين الاستبداد الظالم واستراتيجية الإفقار والتجويع الدائم، إذ يقدّم رؤية شبكية للعلاقة بين الاستبداد والفساد، تتحرك صوب مقياس مركب يكافئ الظاهرة، ويتعامل معها بكفاءة قصوى؛ وتؤكد على هذه الرؤية العميقة والدقيقة البصيرة والرصينة. ومن تركيب هذه العلاقة وتعقدها، وتراكم آثارها، يبدو لدينا أنه لا يمكن، في أي حال، فصل الفساد عن محاضنه وأسبابه، والشروط المعنوية والأخلاقية التي تمكّن له، فضلاً عن بنية الاستبداد التي تكون مرتعا خصبًا لعمليات الفساد والإفساد كما أشار المقال السابق للكاتب. ومن هنا، يشير ابن خلدون إلى مقياس يتركب من خمسة عناصر تتفاعل مع بعضها، وتتواقف على بعضها بعضا، وهي حزمة غاية في الأهمية: 
العنصر الأول، فساد الحالة الجبائية، وهو يتعرّض لهذا الأمر في فصلين مهمين، أحدهما في الجباية، وسبب قلتها وكثرتها، والآخر في ضرب المكوس، أو آخر الدولة. وهو في هذا المقام يقدّم جملة من الفروض الاختبارية حيث يجب توضيح علاقات الارتباط بين الترف والجباية محاضن للفساد والاستبداد معا.
أما الافتراض الأول" فالجباية أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة، وآخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة".. ذلك أنه إذا قلّت الوزائع والوظائف على الرعايا، نشطوا للعمل ورغبوا فيه، فيكثر الاعتمار ويتزايد، لحصول الاغتباط بقلة المغرم، وإذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع، فكثرت الجباية التي هي جملتها".
ويقوم الافتراض الثاني على قاعدة من تخلق أهل الدولة بخلق التحذلق، وتكثر عوائدهم
 وحوائجهم، بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم والترف، فيكثرون الوظائف والوزائع، ويزيدون في كل وظيفة ووزيعة مقدارًا عظيمًا لتكثر لهم الجباية، ويضعون المكوس على المبايعات، ثم تندرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار، لتدرج عوائد الدولة في الترف، وكثرة الحاجات والارتفاق بسببه.
أما الافتراض الثالث فإن كثرة الجباية تثقل المغارم على الرعايا، وتنهضهم، وتصير عادة مفروضة، لأن تلك الزيادة تدرجت قليلاً، ولم يشعر أحد من زادها على التعيين، ولا من هو واضعها، إنما تثبت على الرعايا كأنها عادة مفروضة، ثم تزيد إلى الخروج عن حد الاعتدال، فتذهب غبطة الرعايا في الاعتمار، لذهاب الأمل من نفوسهم لقلة النفع، إذا قابل بين نفعه ومكارمه، وبين ثمرته وفائدته، فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة؛ فتنقص جملة الجباية حينئذ.
أما الافتراض الرابع فلا تزال الجملة في نقص، ومقدار الوزائع والوظائف في زيادة، لما يعتقدونه من جبر الجملة بها، إلى أن ينتقض العمران بذهاب الآمال من الاعتمار، ويعود وبال ذلك على الدولة.
أما الافتراض الخامس، حينما يكثر خراج السلطان، خصوصًا كثرة بالغة، بنفقته في خاصته وكثر عطائه. ولا تفي بذلك الجباية، فتحتاج الدولة إلى زيادة في الجباية، لما تحتاج إليه من العطاء، والسلطان من النفقة، ثم يزيد الخراج والحاجات والتدريج في عوائد الترف، وفي العطاء للحامية ويدرك الدولة الهرم... فتكسد الأسواق لفساد الآمال، ويُؤذن ذلك باختلال العمران، ويعود على الدولة، ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل (الدولة).
هذا فيما يتعلق بمقاييس الحالة الجبائية وافتراضاتها، وتصور ذلك في عصرنا يمكن أن يترجم إلى مؤشراتٍ ترتبط بالسياسة المالية للدولة وسياسات الضرائب والجمارك وأشكال التهرب الضريبي وأشكال الفساد والرشوة التي تتعلق بمثل هذه الجوانب المالية. وتمثل هذه المؤشرات حزمة ضمن منظومة مؤشرات الفساد المحتضنة من البيئة الاستبدادية لفائدة أصحاب المصلحة من الحكام والأعوان في هذا المقام.
ويتعلق العنصر الثاني بفساد السلطان، بدخوله مجال التجارة، وغير ذلك من استغلال المنصب العام، لأغراض ومنافع خاصة. وهو ما يعني، ضمن الأدبيات الحديثة، الحديث عن الفساد الكبير. ومن الأهمية بمكان الإشارة كذلك إلى إمكانيات فساد في إطار العلاقة بين السلطان ورجال الأعمال والتجارة، وهو في هذا المقام يشير إلى فساد يتعلق بعمل السلطات بالتجارة؛ إلى فساد رجال الأعمال حينما يعملون بالسياسة وإلى تحالف أهل الدولة والسلطة ورجال الأعمال.
إنما يدل ذلك كله على مجالات فساد يجب الفطنة إليها ضمن هذا الفصل النفيس "في أن التجارة من السلطان (صاحب السلطة) مضرّة بالرعايا مفسدة للجباية"، وهو يقدم افتراضا غاية في الأهمية أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه من الترف وكثرة العوائد والنفقات وقصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها، واحتاجت إلى مزيد من المال والجباية، فتارة توضع المكوس إن كان قد استحدث من قبل، وتارة بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك عظامهم، ما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان، وتارة باستحداث التجارة والفلاحة للسكان على تسمية الجباية. وهم في ذلك يحسبون أن ذلك من إدارة الجباية وتكثير الفوائد، فهذا غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة.
وفي رؤيته البصيرة العنصر الثالث، يقدم ابن خلدون في فصل مهم آخر "في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية، حينما يؤكد على افتراضٍ لا يقل أهمية عن سابقه، من أنه إذا احتجز السلطان الأموال أو الجبايات، أو فقدت، فلم يصرفها في مصارفها، قل حينئذ ما في أيدي الحاشية والحامية وهم... معظم السواد فيقع الكساد، حينئذ، في الأسواق، وذلك أن المال إنما هو متردّد ما بين الرعية والسلطان، منهم إليه؛ ومنه إليهم، فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية.
أما العنصر الرابع فإنه يتعلق بمؤشرات غاية في الأهمية، وهي في حالة جامعة بين شبكية 
الفساد والاستبداد، وتقسيم التدبير في وظائف الدولة وأصول العمران الذي هو من جملة مؤشرات الفساد، والجامعة في هذا المقام، ضمن شروطٍ لا تجعل من الفساد حالة مادية، وإنما تعتبر الشروط الخاصة المعنوية من بيئة الفساد، والتخلق بأخلاقه، حالةً تستدعى من الباحث عن مقياس للفساد وأن يتأمل ويتفحص (اعلم إن العدوان على الناس في أموالهم ذاهبٌ بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهى بها من أيديهم).
وفى هذا السياق، إذا ذهبت الآمال في الاكتساب والتحصيل، انقبضت أيدي الرعايا عن العمل والسعي. وفى هذا المقام، تعد زيادة معدلات البطالة مؤشرا لا يمكن تغافله في مؤشراتٍ تدل على الفساد.
تعبّر زيادة البطالة عن حالة فساد عميقة كامنة، ناتجة من عوامل أخرى بنيانية في الاجتماع والعمران. ومن جملة ما يشير إليه ابن خلدون، في حالة تعبر عن وعيه بضرورة القياس في هذا الشأن، وعلى قدر الاعتداء، ونسبته، يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيرًا عامًا في جميع أبواب المعاش، كان القعود عن الكسب كذلك، لذهاب الآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها؛ وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته. ومن هنا، وجب البحث في صور العمران وصور الفساد التي تطرأ عليه، وبيئة الظلم الحاضنة لكل ذلك؛ لما أنها كما يقول ابن خلدون (صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة)؛ لا يزال قلم الأستاذ العميد ابن خلدون يضيء الأمر ببصيرة وعمق، ولا زلنا نتعلم على مرئياته ومن مقولاته.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".