نبتة الشيطان

نبتة الشيطان

17 يوليو 2019

نبتة لسان الثور(Getty)

+ الخط -
بناء على دعوة من صديقة، كنت أجلس إلى المائدة القريبة من حلبة رقص المدعوات، تقع في خلفيتها "الكوشة"، وهو المكان المرتفع المخصص لجلوس العروسين. هكذا وجدت نفسي أول مرة في الصف الأول من صفوف قاعة الأفراح، ووجدت أنني اقتربت من عالمٍ كنت أراه دوما عن بعد، ولم أكن أحرص على متابعته، بل أكتفي بإلقاء نظراتٍ خاطفة، وأنشغل بمراقبة المدعوات من حولي، وتجاذب أطراف الحديث مع أقربهن، لتزجية وقت قصير قبل أن أغادر.
هذه المرة، حدث العكس، وجدتُ أنني قد اقتربت من مسرح الأحداث، وأن الصورة البعيدة التي كنت أراها تختلف كثيرا عما أصبح قريبا من ناظريّ، وربما قربي أيقظ حواسي لكي تركز في الوجوه والانفعالات، وقد كنت أتخيّل أن مظاهر الفرح التي تُبديها قريبات العروسين حقيقية، وأن السعادة سوف تطفح من المكان، بسبب دخول حبيبين في قفص الزوجية، ولكن ما بدا لي فعلا هو الطرفة الرائجة إن الزواج ما هو إلا مكيدة يقع فيها اثنان مدى الحياة؛ لكي يعيش مَن حولهما أجواء من الفرح عدة ساعات من يوم واحد.
كانت إحداهن ترقص بإفراط، وكأنها في مسابقةٍ للرقص، ولا تترك لنفسها فرصة لالتقاط أنفاسها، فيما سال كحلُ عينيها فوق وجهها، فتحول إلى لوحةٍ غير مفهومة الخطوط، ولكنها كانت مصرّة على أن ترقص، فيما كانت أم العريس ترقص محاولةً أن تبدي قدرا من الوقار، وموحيةً أنها قد سلمت للأمر الواقع باختيار ابنها، ولكن نظرةً قريبةً إلى ذيل فستانها القريب من مكان جلوسي كشفت لي سرّا تخفيه هذه المرأة المكتنزة، فقد كان طرف الحذاء يُحكم التفافه حول ساقها، وبدأ احمرار جلدِها ينتشر إلى أعلى الساق مع ظهور تورّم خفيف في المنطقة التي تقع تحت طرف جلد الحذاء. وبالتالي، لم يكن صعبا عليّ أن أتخيل مقدار الألم الذي تتحمله هذه السيدة، لكي تمر الليلة على خير، ويعتقد الجميع ما أعتقده أنا، خصوصا حين ألقت بابتسامةٍ جانبية نحو قريبة لها هزّت رأسها بمعنى: أعرف شعورك وأقدّره، ولكن "السناب شات" يخدع الشباب، وستظهر الحقيقة حين تغسل العروس وجهها في الصباح.
فكّرت أن أبتعد، وأن أبقى على الصورة القديمة في عقلي أن الجميع غارق في الفرح، وتراجعت وأنا أسمع تعليقا لمدعوّة ما عن الشابة التي كانت ترقص بإفراط، وبأنها تحاول أن تجد وسيلةً لإجهاض نفسها بنفسها، بعد أن تركها زوجها، وهاجر من البلاد إلى جهةٍ غير معلومة.
البقاء في مكان بعيد عن حياة الآخرين هو الأسلم، وربما المرور مرور الكرام والبعد عن التفاصيل يهيئ لنا بعض الراحة التي ننشدها، ويحمينا من التعلق بالوهم حيناً، فنحن مبرمجون حسبما نقرّر أن يكون نظام يومنا، فالفرح معدٍ والحزن كذلك، ولا يمكن أن نقع في منطقة الوسط. ولذلك، الوقوع في المنطقة التي كنت فيها كان مثيرا للشفقة على من رأيتهم، وعلى نفسي، والبعد كان الأسلم، وربما كان القرب في حالاتٍ قليلة مجلبةً لمصلحة، أو إغراقا في خيال أو أمل كاذب، وهذا ما حدث معي قبل هذه الواقعة، فأحدهم كتب على حسابه في "فيسبوك" عن نبتة تملأ جوانب الطرقات في خلاء غزة، غزة التي تمتلئ يأسا وإحباطا. وبالمناسبة، يعاني 37% من المواطنين في فلسطين عموما من الاكتئاب، بسبب سوء الأحوال المعيشية، حسب تقارير منظمة الصحة العالمية، وهذه النبتة اسمها "لسان الثور"، وتستخدم في الطب البديل لعلاج الحزن والاكتئاب. وحين كنت أمر من منطقة زراعية، لفتني انتشارها العبثي، من دون أن يلتفت إليها أحد، فاقتربت منها، وقطفت بعضا من سيقانها التي تنتهي بأزهار صغيرة، ولكن رائحتها ليست عطرة، وقرّرت أن أستغلها وأشرب منقوعها، ثم نسيتها حتى جفّت، وفكرت أنه ربما لحكمة إلهية ابتعد المارّة عنها، ظانّين أنها نبتة شيطانية على قارعة طريق الحياة، وإلا أصبحت مثل القات والمخدّرات.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.