موقف أخلاقي بشأن المركز العربي

موقف أخلاقي بشأن المركز العربي

16 يوليو 2019
+ الخط -
لا يختلف اثنانِ من المؤمنين بفكرة المشروع التنويري للمفكّر العربي عزمِي بشارَة، ولا سيما المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات الذي نفض الغبار، بكلّ ما تعنيه الكلمَة، عن العلوم الاجتماعية والإنسانية، ورفع صوت الموضوعية العلمية والديمقراطية وقضايا شعوب المنطقَة؛ أنّ المركز العربيّ ليس بحاجة إلى من يدافع عنه، إذ إنّ مئات الكتب العلمية المحكمة الصادرة عنه، ودورياته المحكمة، ومؤتمراته العلمية، ومشاريعه البحثية الكبرى، المؤشر العربيّ ومعجم الدوحة التاريخي مثلين، كفيلة بأن تقوم بهذا الدور. إضافة إلى مكانة مديره العام الاعتبارية والنضالية والعلمية، وطاقمه البحثي والإداري. ومع هذا، لا بدّ من إعلاء صوت الموقف الأخلاقي من هذه المؤسسة العربيّة الاستثنائية، التي أضحت مصدر قلقٍ لبعضهم، لا بسبب غموضها، بل لوضوحها وشفافيتها وعلانية أهدافها العلمية الخالصة. 
ليس المركز العربي حزباً سياسياً، ولا جمعية سياسية لديها أجندات خفيّة، وعمل سرّي، بل هو مؤسسة بحثية تحتفي علناً بإنجازاتها، وتنشر بحوثها الموجهة إلى عموم القرّاء احتكاماً لمبدأ النفع العام. المركز مؤسسة بحثيَة حاضنة لجماعةٍ علمية من كل المنطقة العربيَة، تطوّرت لتؤسس معهداً جامعياً للدراسات العليا في العلوم الاجتماعية والإنسانيَة، فتح أبوابه أمام الطلبة العرب المتفوقين الراغبين في استكمال مشوارهم الدراسي. ببساطَة، يفعل المركز ما عجزت عن فعله أنظمة الاستبداد، لأنّ المشاريع العملية الكبرى هي مشاريع دول.
وما زال المركز العربيّ وأهله يترفّعان على أحقاد حقودين وعقدهم، ويغضّان النظر عن الهجمات التي تطاول مؤسسه ومديره العَام، ويستمر في العطاء من دون مقابل، سوى المقابل الرمزي المتمثّل في إعادة الاعتبار للعلم، ونشر المعرفة باللغة العربيَة، وترقية الأخيرة عبر 
مشروع لغوي، يستحق دون غيره تسمية "مشروع القرن"، والمتمثّل في معجم الدوحة التاريخي للّغة العربيَة، على الرغم من الهجمات الشرسة الإعلاميَة، الممنهجة والمنظمة التي يتعرّض لها. إذ لا يكاد يمرّ يوم إلا و"تتسمّم" عينا القارئ أو مسمعه بما تنشره "صحف صفراء"، ومواقع إلكترونيَة تنضوي ضمن آلة ضخمة للدعائية، وإنتاج الكذب، منها المقال الذي نشره موقع "العين الإخباريَة" يوم 1/4/2019؛ واقتبس كتّابه جملةً من مقالٍ كان صاحب هذه السطور قد نشره سابقاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وجعلوا الاقتباس يبدو وكأنّه شهادة منّي تدعم جملة الادعاءات والافتراءات التي حملها المقال في حقّ مؤسسة المركز العربي، ومديره وإدارته، وتصوير هذه المؤسسة العريقة باعتبارها "تستعمل المال لتجنيد.. الباحثين".
الحقيقة أنّ المركز العربيّ باعتباره مشروعاً بحثياً رائداً، ناضل من أجل مصداقيته وسمعته العلميَة، ليس بحاجة إلى المالِ لاستقطاب أحد، فالولوج إلى مؤتمراته يتم عبر إعلاناته العامّة، وكذلك بالنسبة لوظائفه التي يتم الإعلان عنها في الموقع الإلكتروني للمركز كباقي المؤسسات. وأما الإغراء المالي، فالمركز لا يقدّم أموالاً مقابل البحوث المنشورة، عدا النسبة المتعارف عنها عند نشر الكتب. كما أنّ رواتب المركز ومستحقات طاقمه الماليَة لا تشذّ عن المتعارف عليه في الدولة المستضيفة، وباقي الدول المجاورة، التي تشنّ إحداها حرباً غير معروفة السبب
 على مؤسسة بحثية تشتغل حصراً في البحث العلمي.
أمّا بشأن الهجمات الشرسة والمركبة التي تطاول المدير العام للمركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، المفكر عزمي بشارَة؛ فمعروف أن بشارة شخصية عربيّة عامّة ذات تاريخ نضالي، وعلمِي يسبق تأسيس المركز العربيّ، ويسبق تأسيس بعض المؤسسات الإعلاميَة التي تنتج الكذب والتلفيق والتزوير؛ ويسبق ميلاد بعض الظواهر الصوتية الإعلامية والبحثية. كرّس جهده ووقته لخدمة العلوم الاجتماعية والإنسانية، وإعادة الاعتبار للبحث العلمي الموضوعي، غير المنفصل عن واقع الإنسان العربيّ العام، ولا سيما في ما يتصل بالديمقراطيَة وقيم الحقّ والحريّة. واعتكف منذ غادر فلسطين على الانشغال الفكري الذي يخرج في شكل كتب مرجعيَة، ومؤسسات ذات نفعٍ لكل المنطقة العربيَة.
يوفر عزمي بشارة فرصاً للطلبة والباحثين العرب، من خلال المؤسسات التي يشرف عليها. ومن خلال إعلائه القيم التنويرية العليا، كالحريَة والديمقراطية والعلم الموضوعي الذي يخدم الإنسان. كما يجسّد "كبرياء ساكن أصلي"، يترفع عن هجمات المحتل وحلفائه من المنطقة، ويسير بتواضعٍ نحو هدفٍ أسمى وأهمّ بمراحل ممّا تنتجه آلات الكذب السياسي ومحرّكوها وممولوها والمنتفعون منها. ولبشارة من الرصيد العلمي والنضالي ما يكفيه لصدّ أيّ تطاولٍ على شخصه.
الموقف الأخلاقي مِن المركز العربيّ للأبحاث، وما في فلكه من مؤسسات رائدة في مجالاتها، هو موقف المؤمن بالمشروع التنويري العربي، وبنهضة المنطقة العلمية بسواعدِ أهلها، وبلغتها. وتعبيرٌ عن امتنانٍ وشكرٍ طبيعيين لمؤسّسة تزوّد المنطقة العربيّة بجيلٍ واعدٍ من الباحثين 
المنشغلين بقضايا بلدانهم ومنطقتهم؛ وتعمل على إثراء المكتبة العربيَة بمؤلفاتٍ علميَةٍ مرجعية، وتؤسس لتقاليد علمية رصينة، تحجز لها مكاناً مرموقاً في عالم الأكاديميا الاجتماعية والإنسانية التي يسيطر عليها الغرب. والهجوم على المركز العربي هو ضريبة الانحياز للحريّة والديمقراطية والموضوعية وقضايا شعوب المنطقة، في سياقٍ استبدادي، يحاول المستبدّون، ومن معهم، إسكات أيّ صوتٍ نقدي، ولو على حساب العلم ونشر المعرفة.
وفي الختام، ليس هناك موقف علميّ نقدي من المركز العربيّ ومؤسسه، ليُرّد عليه بالأدوات الفكرية والمنهجية المتعارف عليها لدى الجماعة العلمية، وإنما ما نراه ونقرأه ونسمعه يومياً هو موقف مؤامراتي وظلامي، يُقحم المؤسسات البحثية في عالمه السياسيّ الخالي من الأخلاق، والحريّة، والإبداع، والمليء بالأحقاد والضغائن.
4B2FBF0A-B9D0-45E8-BB60-FC5241F9CD45
4B2FBF0A-B9D0-45E8-BB60-FC5241F9CD45
بلقاسم القطعة

طالب جزائري في معهد الدوحة للدراسات العليا

بلقاسم القطعة