عن عالم يتصدّع بدون بدائل

عن عالم يتصدّع بدون بدائل

15 يوليو 2019

(Getty)

+ الخط -
لا بضائع الصين، منخفضة التكلفة ومتدنية الجودة، ولا أسلحة روسيا، عديمة الدقّة، المجرّبة على اللحم البشري، ولا حتى تقليعات الرئيس الأميركي، ترامب، وتغريداته المتواترة، مؤشرات على عالم قادم يجري بناؤه في هذه اللحظة. ولا يعني التصدّع السريع في عالم اليوم نضوج بديل جاهز ينتظر لأخذ دوره، وقد امتلك القدرة على قيادة البشرية، وضبط صراعاتها وإدارة توازنات القوى فيها.
كل ما يحوم في سماء عالم اليوم ليس أكثر من تلاقي أفكار وسياسات عدائية تجاه الاتحاد الأوروبي الذي يبدو في هذه اللحظة النموذج العالمي الوحيد المحترم، بعد تهافت أميركا وانحطاط روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي. وعلى الرغم مما ينطوي عليه من نقاط ضعف عديدة، يقع هذا النموذج في عين استهداف أميركي روسي صيني، ليس بهدف تحطيم هذا النموذج، بقدر ما هو تأمين شرعية للنماذج التي باتت تمثلها هذه الأطراف الثلاثة. وقد شكل الرئيس الروسي، بوتين، في قمة العشرين، في أوساكا اليابانية، أخيرا، رأس حربة هذا الفريق الثلاثي بالهجوم على أوروبا، عبر التبشير بـ "موت سياساتها الليبرالية"، وكان يقصد إعلان نهاية نموذج يمقته، وصعود نماذج أخرى، منها النموذج البوتيني نفسه السائد في روسيا منذ عقدين.
ولكن ما الذي لدى أوروبا ليتشكل في مواجهتها هذا التحالف، غير المعلن؟ كما أن هذه الأطراف التي تدّعي الصعود وإعادة بناء قوتها لا تحتاج إلى تحطيم ركائز قوّة أوروبا المادية، فهي لا تملك ما تملكه منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي (الصين، اليابان، كوريا الجنوبية..) من ثروات، وليس لدى أوروبا قوّة عسكرية تنافس أميركا وروسيا. كل ما لديها سياسات للدفاع عن البيئة واللاجئين وحقوق الإنسان والشفافية، وهي قيم متجذّرة في الوعي الأوروبي، قبل أن 
تكون سياسات عالمية.
ثمّة من يذهب إلى أدلجة هذه القيم وردّها إلى منظومة القيم الليبرالية. وقد ادعى بوتين نفسه أنه ينتقد الجذر الليبرالي لهذه القيم. ولكن بعيداً عن الأدلجة والموقف منها، ثمّة قيم أصبحت ملكاً للبشرية، بغض النظر عن اتجاهاتهم وعقائدهم وأعراقهم، لارتباطها بالمصالح المباشرة لكثير من الأفراد والجماعات والشعوب، إذ يندر أن تجد شعباً ليست له مصلحة في الديمقراطية والشفافية وحق اللجوء من الاضطهاد والقمع، والعكس هو الصحيح، ذلك أن المصالح الضيّقة لبعض النخب تتناقض مع هذه القيم وترفضها.
تتناقض هذه القيم بشكل حاد مع سياسات الصين ومشاريعها التي ترفض سماع أي صوت حر وديمقراطي بين مئات ملايين البشر الذين يشكّلون العالم الصيني، وتحاول النخبة الصينية تفقّد خضوعهم صباح كل يوم، وتعمل على قضم مكتسبات هونغ كونغ الديمقراطية، ووضع شعب الإيغور في معسكرات إعادة تربية، وتحقيق صفقات تجارية مربحة، بالتعاون مع الديكتاتوريين المأزومين في العالم، عبر نموذج استعماري جديد، يقوم على تقديم الخدمات مقابل السيطرة على الأصول الاستراتيجية للدول، إن لم تستطع تسديد ثمن تلك الخدمات!.
كما تتناقض مع مصالح النخبة "المافيا" الفاسدة التي تحكم روسيا، فلا شيء يهدّد أمن هذه النخبة ومصيرها، وهي التي وصفها معلق أوروبي نابه بأنها عصابة تملك أزرارا نووية، أكثر من مطالبة الشعب الروسي بالشفافية والديمقراطية. ويتمنّى بوتين، رأس هذه العصابة، أن ينام ويصحو ويجد العالم كله قد تحوّل إلى ديكتاتوريين وفاسدين، واختفت الصحافة الحرّة منه، وسقطت منظومة حقوق الإنسان وإعلانها الذي قد يكون بنظره أكبر خطأ سياسي ارتكبه العالم، إذ لا بد أن عالما على هذه الشاكلة يتناقض مع العالم الذي يطمح إليه ويشكل ملعبه، عالم يقتل فيه كما يشاء، ويستعرض قوّته على أجساد ضعفائه. 
وعلى الضفة الأخرى، يقاتل ترامب لجعل العالم أكثر عنصريةً، ويجاهد من أجل تفتيت أوروبا الحالية، على أمل أن تظهر على أنقاضها أوروبا عنصرية، لأن بقاءها على قيمها الحالية كاشف لمساوئ عنصريته وافتراضاتها الزائفة التي تقول إن الانعزالية وبناء الجدران هي الحل والمنقذ لاقتصاد أميركا ومستقبلها.
ثمّة من سيقول إن الأطراف الثلاثة، أميركا (في زمن ترامب) والصين وروسيا، بينها ما صنع الحداد، وخلافات مستعرة، ولكن الوقائع كشفت تكتيكية هذه الخلافات والأزمات، بدليل أنه يمكن تجاوزها، إذا ما توصلت تلك الأطراف إلى اتفاقيات وتفاهمات بخصوص الأنصبة ونسب 
الأرباح، كما هو حاصل بين أميركا والصين، وتراجع ترامب عن حظر شركة هواوي، وكذلك خلافات على المكانة والتراتبية في النظام الدولي، خلاف أميركا وروسيا. في حين أن خلافات هذه الأطراف مع أوروبا جوهرية عميقة، كالخلاف على البيئة والهجرة والديمقراطية، وهي خلافاتٌ لا يمكن تسويتها إلا برضوخ أحد الطرفين، ويصعب الوصول إلى حلول وسط بخصوص هذه القضايا، وهي قضايا عالمية، وذات صلة بمستقبل البشرية.
ربما تصيب الأطراف الثلاثة المشار إليها بعض النجاح في السنوات المقبلة، نظراً إلى شراستها وإمكاناتها المادية والعسكرية، ولكن تحوّلها إلى بدائل يبدو مستحيلاً، لأنها تنطوي على تناقضاتٍ هائلة، وتقوم على افتراضاتٍ خاطئة، من نوع استمرار خضوع شعب الصين وقبوله العيش على الكفاف الاقتصادي والسياسي والحد الأدنى من الحياة الآدمية، واستمرار قدرة الأوليغارشية الروسية في حكمها المافيوي، وتحوّل النموذج الترامبي إلى نهاية للتاريخ، حيث تتوقف أميركا عن إنتاج نماذج أخرى.
جميع هذه النماذج مأزومة، وغير مقدّر لها الاستمرار طويلاً، ويصعب تصديق قدرتها على صناعة عالم بديل، على الرغم من قدرتها الواضحة على التصديع والتخريب. والرهان اليوم معقود على نضال الشعوب وصمودها، إلى حين تفسّخ تلك النماذج وانهيارها.
5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".