ترشيد الإنجاب ومفهوم الحرية

ترشيد الإنجاب ومفهوم الحرية

15 يوليو 2019

(بول عيراغوسيان)

+ الخط -
كانت القضية المطروحة للنقاش على إحدى الفضائيات الموجهة إلى منطقتنا العربية هي فلسفة عدم الإنجاب التي أصبحت فكرة تطفو على السطح بجرأة أكبر مما كانت سابقاً، وهذا متوقع، تحت ضغط الظروف المأساوية التي تعيشها شعوبنا. اللافت في نتيجة الاستطلاع أن من يؤيّدون هذه الفلسفة 46%، مقابل 54% يرفضونها، وهذه نسبة مرتفعة في مجتمعات محافظة، الناظم الأكبر لثقافتها وسلوكها الدين والعرف والموروث.
لا يمكن فصل موضوع الإنجاب عن المستوى المعيشي للأفراد بالدرجة الأولى، وعن مستوى الوعي وإدراك الذات الإنسانية ودورها في الحياة، حياتها الخاصة، وحياتها ضمن المجتمع الذي تتشارك العيش معه في ما يسمى وطناً. ويعتبر هذا الأمر قضية، كان من المفترض أن تعالج في السابق، وتأخذ أولوية في الخطط التي تضعها الحكومات، لكنها لم تعالج، وتركت، مثل قضايا كثيرة، تحت رحمة منظومة الفساد، أو القضايا التي تفتح عليها أبواب مواربة، توهم بالعلمانية والحداثة والاهتمام بالمجتمع هدفاً أساسياً للتنمية.
لا يمكن المرور على فكرةٍ بهذه الأهمية، وقضية بهذه الجسامة، من دون التوقف طويلاً أمام الحالة السورية، الحرب المدمرة التي طالت واستطالت ومدت لهيبها على كل أنحاء سورية، وعلى كل شرائح الشعب، إن كان لجهة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام أو تلك الخاضعة 
له، كما من البديهي أن يكون اللاجئون السوريون الذين يشكلون ما يقارب ثلث الشعب نموذجاً عن الموضوع، فالواقع يمدّنا بالأرقام عن معدل التكاثر بين السوريين، خصوصاً الذين يعيشون في ظروف مأساوية، إن كان تحت القصف والغارات وتحت وابل النيران بين الفصائل المتحاربة وقوات النظام، أو فيما بين بعضها البعض، كما الذين يعيشون في مخيمات لجوء في دول الجوار تحت رحمة ظروفٍ لا إنسانية، يعانون البرد والجوع والندرة في كل شيء، وأهم شيء غالبية أطفالهم محرومون من التعليم أو ممارسة الهوايات أو العناية الطبية.
تشير الأرقام إلى ارتفاع معدل الولادات في تلك المناطق، على الرغم من الظروف المأساوية وانسداد الأفق أمام الحلول السياسية التي يمكن أن تمنح بصيصاً من أمل بتحسّن الظروف. هذه الازدواجية، أو التناقض بين الظروف المتوفرة وطريقة التعاطي مع الحياة، جديرة بالدراسة. ومن الواجب التفكر بحلول لقضايا كثيرة ستكون مشكلة مستقبلية بالنسبة إلى سورية ما بعد الحرب، وعدم تأجيل دراستها وتصور أو طرح حلول لها. ولا تكون الحلول فقط بوضع تشريعاتٍ وسن قوانين، بل هناك ما هو أهم، التأسيس لثقافةٍ تكسر الصورة النمطية عن الإنجاب والتكاثر الراسخة في الوعي الجمعي.
.. في أواخر القرن الثامن عشر، صاغ المفكر الإنكليزي مالتوس نظريته عن التكاثر السكاني تحت عنوان "مقالة حول مبدأ السكان"، تقول إن وتيرة التكاثر الديمغرافي هي أسرع من وتيرة ازدياد المحاصيل الزراعية، وكميات الغذاء المتوفرة للاستهلاك. ومن شأن هذا الأمر أن يؤدي، في المحصلة، إلى اختلال التوازن بين عدد السكان وإنتاج الغذاء اللازم لإطعامهم، ما ينذر بمشكلات اقتصادية واجتماعية خطيرة من فقر وجوع، وبروز لظواهر مجتمعية سيئة، كالتشرّد والتسول واحتراف النصب والسرقة. أي أن المالتوسية ترجع ظاهرة الفقر والجوع في العالم إلى الاكتظاظ السكاني، وهو يرى أن على المجتمع أن يضع حداً لهذا التكاثر، بوضع قيود أخلاقية، وعلى الدولة أن تكفّ عن مساعدة الفقراء، لأنها بهذا تشجعهم على الاستمرار في 
التكاثر، فتزداد حدة المشكلة بسبب المساعدات، بدلاً من أن تكون المسؤول عن حلحلتها.
صحيح أن الفترة التي عاش فيها مالتوس كانت فترة حروب ومجاعات وأزمات وتغيرات دراماتيكية في النظام الاقتصادي العالمي، وأن مجمل تلك الظروف كانت دافعاً مهماً لنشوء نظريات تشاؤمية إلى حد كبير، انعكاساً لعصر واعد، نتيجة ثورة صناعية، بآفاق مفتوحة من أجل جني الأرباح ومراكمة الثروات، لكنه مرعب بالنسبة إلى مستقبل البشرية، إنما بعد مضي قرنين على تلك المرحلة، صارت أسباب التشاؤم أكبر من أن تحصى أو تحدّ، وصارت الحروب ديدن الاحتكارات العالمية وخبزها اليومي، فكيف يمكن ضبط الانفجار السكاني في العالم من دون تحقيق العدالة على الأرض؟ من دون رفع الوعي البشري بالمعنى الحقيقي لتهديد الوجود؟ هذا بنظرة شمولية. أما لو أردنا التمعن بمشكلاتنا من هذه الزاوية تحديداً، فإن تنظيم المجتمع وترشيد الإنجاب ومفهوم الأسرة ودورها وحقوقها، ومفهوم الطفولة وحقوقها، كلها قضايا يجب إعادة صياغة الثقافة الحاضنة لها. صحيح أن العواقب المتوقعة للحروب المدمرة المديدة، كالحرب السورية، البؤس والفاقة والتشرّد والأوبئة والأمراض وتردي الحياة إلى أدنى مستوياتها. والصحيح أكثر أن انهيار المنظومة المعرفية والقيمية والأخلاق يكون مدوياً، ولكن المشكلة لم تبدأ من هنا، بل هي حصيلة عقود من الإهمال والركود الاجتماعي، وتردّي الوعي الجمعي والفساد الحكومي والاجتماعي.
لقد ترك المجتمع للموروث والثقافة التقليدية والعرف والتقاليد والمؤسسات الدينية أن تصوغ له منظومة معارفه وقيمه، ولم تهتم الحكومات، في ظل نظام شمولي، بالنهوض بالوعي العام، فكان الإنجاب وكثرة الولادات أمراً غير قابل للنقاش، فالإنجاب، بحسب مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي (القائد الوحيد للدولة والمجتمع) على مدى خمسين عاماً خلت، واجب "قومي". وفي الوجدان الشعبي العميق، المرتبط بالدين والقدرية، "الولد يأتي ورزقه معه". وفي المرويات الشعبية التي تعلمتها الأجيال المتعاقبة حكاية الأب الذي دعا أولاده الثلاثة إلى كسر حزمة العصي التي كسروها بالمفرق، لكنهم عجزوا عن كسرها بالجملة، في إشارة إلى أن القوة بالكثرة والتلاحم، بينما في العصر الحالي لا مكان للعدد أمام استثمارات العقل والابتكار التي تصنع القوة.
قد يكون من الصعب تفكيك منظومة القيم الراسخة والمركبة التي تتحكّم بوعي الأفراد وسلوكهم 
وطريقة عيشهم، ولكن كل الطرق تتفرع من بؤرة مركزية هي الحرية. الحرية تمنح الإنسان الحق في صياغة حياته كما يريد، تمنحه الحق في استقلال إرادته، تمنحه الحق في التعبير عن آرائه ومواقفه، تمنحه الحق في أن يعيش إنسانيته ويمارسها، وتمنحه الحق والقدرة على النقد الذاتي، ونقد التجارب الجمعية أيضاً. الحرية تفجر طاقاته الكامنة، وتعزّز ثقته بنفسه، وتمده بالقوة على أن يتبنّى فلسفته الخاصة، ولا يضطر إلى الخداع والمواربة، والعيش بازدواجيةٍ تبدّد قدراته وطاقاته الإبداعية.
عندما يمتلك الإنسان إرادته، ويصبح حراً، فإن خياراته في الحياة تكون أجدى، وهذه النسبة التي أظهرها الاستطلاع، الموافقة على فلسفة عدم الإنجاب، تعبّر عن رغبة أكثر مما تعبّر عن موقف عقلي، فعلى أرض الواقع قسمٌ لا بأس به ممن يقرّ بهذه الفلسفة لا يجرؤ على ترجمتها سلوكياً، لأن سلطة البيئة والمجال العام أقوى بكثير، والفرد في مجتمعاتنا لم ينل حريته بعد، وما زالت الفردية أمراً بعيد المنال، تحاربه الأنظمة الشمولية، السياسية والاجتماعية والدينية. وكذلك، يبدأ تمكين المرأة بتعزيز وعيها ذاتها الإنسانية، وأنها ليست فقط أداة إنجاب، فالإنجاب هو عملية مشتركة يلزمها رجل وامرأة، والطفل بحد ذاته مشروع يجب أن تتوفر كل الإمكانات اللازمة لاكتماله، وهو ليس تلبيةً لغريزة فقط، بل أيضًا كما يقول ماركيز: إن حب الأولاد ليس نابعاً من كونهم أبناء، وإنما منشؤه صداقة التربية.
هذا كله لا يعني أن فلسفة عدم الإنجاب هي البديل أو الحل للمشكلات التي تتخبط بها مجتمعاتنا، قبل الحروب وفي أثنائها وبعدها، ولكن بناء المجتمعات وقيام الدول وتمكّنها في عصرنا الحالي صارت له أدواته وأساساته الخاصة، ولا بد من ترشيد استثمار الموارد البشرية، فحتى الحروب لم تعد تحتاج إلى العدد الكبير من المقاتلين، فهي تدار بالتفوق التقني في مجال الصناعة الحربية، والحرب السيبرانية أحد وجوهها الجبارة، لكن الحروب تحصد أرواحاً بشرية كثيرة.