الحراك في الجزائر وهزائم فرنسية

الحراك في الجزائر وهزائم فرنسية

15 يوليو 2019
+ الخط -
تتوالى هزائم فرنسا على ثلاث جبهات، في مالي وليبيا وفي ثنايا الاتّحاد الأوروبي، كما تتراجع أياديها عن الصفوف الأولى للحكم في الجزائر، ما يدلّ على أنّ ثمّة شيئا جللا يحدث بعد حوالي ستين سنة من الانعتاق عن العدو اللّدود الذي أينما كان يجب ألا نكون، من فرط ما يحمل لنا من عداوة وما يتحرّك به من دسائس، ليدعنا في التخلّف لا نخرج، ومن الأزمات لا ننتهي.
من نافلة القول التعرّض، هنا، لحجم العداوة التي يحملها الجزائريون لفرنسا، وتبادلهم إيّاها، والتي خلفيتها رقم مهول من ضحايا الاستدمار والمسخ الذي مارسته ما يزيد عن 130 سنة، والذي يشير، وفق مؤرّخين محقّقين، من أمثال أبو القاسم سعد الله، محمد الأمين بلغيث ومحمد القورصو، من دون أن يُنسى المنصفون من المؤرخين الفرنسيين ممن أرّخوا لتلك المجازر، إلى حوالي عشرة ملايين شهيد جزائري في الفترة الاستدمارية كلّها، لينتهي المقام إلى اعتبار مجرّد سرد اسم فرنسا استدعاءً لمخيّلة عداء، دمار ومكيدة تستمرّ وتتعمّق، مع مرّ الزمن. وقد حان الوقت الاستفاقة منها، وعقد العزم على رفع الهمّة، للانطلاق في مشروع نهضةٍ يكون لنا عونا، في قريب الأيّام، لردّ الصّاع صاعين، بموازنة العلاقات والوقوف الندّ للندّ في الجوار وفي الإقليم (غرب المتوسّط والمنطقة الساحلية - الصحراوية).
لم تكن متخيلةً فرصة أفضل من التي تتمثّل للجزائريين، منذ بدء الحراك، في 22 فبراير/ شباط 2019، للبدء في المشروع النّهضوي، من حيث وضعه في أسمى الأولويات من خلال التّأكيد أن ما جرى من فساد، أيّاً كان شكله، هو من فعل تواطؤ بين نخبةٍ سياسيةٍ داخليةٍ وجزء من النّخبة الفرنسية ومؤسّساتها، للحطّ من شأن الجزائر، من خلال جعلها قطعة تابعة لفرنسا، برمزية المستعمرة السابقة، مقولة كثيراً ما سمعنا ساسةً جزائريين يردّدونها، وساسة فرنسيين 
يؤكّدون عليها.
ولعلّ ما يدفع إلى التأكّد، مجدّداً، من تلك النية السيئة المبيتة للإضرار بالجزائر، وهذا ديدن فرنسا، اكتشاف أسلحة فرنسية في ليبيا، موجّهة لنصرة الجهة التي تقف ضد مصالح الأمن القومي الجزائري، ما يرفع درجة القرائن، الرابطة بين ارتفاع منحنى النّزاع في ليبيا، ومنها قرار الجنرال المتقاعد خليفة حفتر الهجوم على طرابلس، وانطلاق الحراك في الجزائر، بغرض الإضرار به، لتصبح مثبتة ومؤكّدة، مع العلم أنّ هذا العمل يتمّ بمساعدة ودعم من دول في الإقليم، تعمل ليكون لها موطئ قدم في ليبيا المقبلة. ولكن، يشاء القدر أن تحدث هذه الأمور في مفترق طرق الأولوية فيه، جزما، للجزائر وهي تقف مع الشرعية في ليبيا وعلى مسافة واحدة من كل فرقاء الأزمة، في بلدٍ أمنه القومي من أمن الجزائر القومي، وتجد معطيات تلك الأولوية محوريتها في ثلاث حقائق: مشكلات في مالي، مشكلات على مستوى مجموعة الخمسة في السّاحل، إضافة إلى مشكلات أكبر في الاتّحاد الأوروبي.
دخلت فرنسا إلى مالي، بعد الانقلاب العسكري في هذا البلد، في عام 2012، معتقدة أن ضربتها الاستباقية، هناك، إدامة لإدراك أمنها القومي المتمدّد في جنوب المتوسط والمنطقة الساحلية – الصحراوية، ومتربّصة لأي موطئ قدم، يقرّبها من الحدود الجزائرية، ولتنخرط في مقاربة متناقضة مع تصوّرات الحلّ الجزائري لمشكلات الساحل (الاقتصاد، الهجرة غير الشرعية، الإرهاب، التهريب، انتشار جماعات الجريمة المنظمة..)، وخصوصاً تلك المتصلة بالانسجام المجتمعي، هناك، باعتبار أن تلك الإشكالية مسألة حيوية للجزائر، بالنظر إلى التداخل المجتمعي بين الجنوب الجزائري ودول في الساحل، في مالي والنيجر، وهي المسألة المتصلة 
بالأزواد (الطوارق).
وقد حاولت فرنسا، كما تفعل دائما، تحيّن هشاشة الوضع المتولّد عن الرّبيع العربي وتداعياته الأمنية، لتقترب أكثر من الحدود الجزائرية. ولهذا، قادت عمليات حلف شمال الأطلسي (الناتو) لإسقاط نظام معمر القذافي في ليبيا، ولكن عينها كانت، وما تزال، على الانخراط في أية مقارباتٍ تمسّ الأمن القومي الجزائري. ولمّا رأت أن المقاربة الجزائرية الأمنية ثابتة في التعامل مع الجوار، في إطار المبادئ التي سطّرتها في عقيدتها العسكرية بعدم التدخل العسكري، خارج الحدود الجزائرية، سارعت إلى ذلك التدخل في مالي واستتبعته، بعد بروز بوادر فشل عملياتها، هناك، بإنشاء مجموعة الخمسة الساحلية، رفقة بلدانٍ قريبةٍ من المجال الجيو سياسي الجزائري (موريتانيا، بوركينا فاسو، مالي، النيجر وتشاد)، محاولة منها لجرّ الجزائر إلى تغيير ذلك الموقف ومستعدة لأية ردود أفعال جزائرية للدفاع عن مصالحها بمقاربة التشاور، الوساطة والتأثير بأدوات تملكها، وفرنسا تعلم ذلك، تمام العلم، وخصوصاً في كلّ من مالي والنيجر.
ولمّا شاهدت فرنسا، أيضاً، متحسّرة، فشل تلك الاستراتيجية، حاولت استخدام خيار الضغط الأميركي - الأطلسي لإيجاد موطئ قدم في الجنوب الجزائري، بقاعدة عسكرية للطائرات بدون طيار، ولكن الجزائر رفضت ذلك المسعى، لنجد تلك القاعدة في النيجر، على مرمى قدم من الحدود الجنوبية الجزائرية، مضافاً إليها توسيع كلف شمال الأطلسي شراكته الأمنية - العسكرية مع الجارة تونس التي تشهد حدودها الغربية مشكلات مزمنة مع الهجمات الإرهابية، بالقرب من الحدود الجزائرية.
يتوالى هذا الفشل، بالقرب من الجزائر، مع فشل آخر في الاتّحاد الأوروبي، حيث تتململ فرنسا في قطب اقتصادي على وشك الانفجار، بفعل الانسحاب البريطاني وتغوّل الألمان، شيئا فشيئا، وهو فشلٌ تحاول فرنسا تعويضه بالتمدّد جنوبا، وعينها على اليورانيوم (في النيجر) والنفط والغاز في الجزائر وليبيا وتشاد وعرض الشواطئ الموريتانية، ذلك أن استراتيجية الانتقال الطاقوي الفرنسية تحتاج إلى الاستحواذ على تلك الموارد الطاقوية لتقوية الموقف التفاوضي الفرنسي في الإطار الأوروبي، على خلفية تنافس شديد مع عودة روسيا إلى شمال أفريقيا، وحضور الصّين القوي في "طريق الحرير".
تصل المقالة هنا في نهايتها إلى توازي تلك الاستراتيجية الفرنسية، من خلفية ذلك الفشل، مع الحراك الذي انطلق في الجزائر في 22 فبراير/ شباط الماضي، والذي حاولت، مرارا وتكرارا، التدخل فيه، تارة بالتعليق على قرارات سيادية جزائرية (بعد تراجع الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة عن ترشحه لعهدة خامسة ثم استقالته)، وتارة أخرى، بمد يد العون لمعاولها التهديمية والتي يوجد، أغلبها، الآن، في السجون، بفعل انخراطها في ملفات فساد، وجرائم بعضها أمني - سياسي.
ويدل توازي ذلك الفشل مع الهبة الشعبية لتجسيد التغيير، بما لا يدع مجالا لأي شك، بأن ثمّة عقلية جزائرية بدأت في التفكير مليا للخروج من دائرة التأثير الفرنسية التي أورد الجزائر 
المهالك، لعلم فرنسا، المؤكد، أن من أولى خطوات الشرعية المقبلة، بعد الانتخابات واختيار الجزائريين رئيسا شرعيا بمحض إرادتهم، المراجعة الكلية لمنظومة العلاقات التي تربطهم بجوارهم الشمالي، وخصوصا اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، تلك الاتفاقية الفاشلة على الأصعدة كافة. إضافة، طبعا، إلى قرار بفك الارتباط بين مصالح الجزائريين ومصالح تلك المنظومة وبناء دائرة مصالح ذاتية بمشروع نهضة حقيقية، رفقة جوارهم الطبيعي (المغرب العربي) والجيو- سياسي (غرب المتوسّط والمنطقة الساحلية - الصحراوية) بمقاربة الرابح - رابح والند للند، بالنظر إلى مقدرات الجزائريين، وزخم ثلاث طرق نهضوية حقيقية: طريق الزراعة، طريق الابتكار التكنولوجي، وطريق الطاقات المتجددة.
يرفع الجزائريون، كل جمعة، شعاراتٍ تدل على رفضهم التام فرنسا، انطلاقا من ذاكرة تحمل في مخيالها بغضها العدو الدائم. ولكن لا يغيب، عن عقول الجزائريين، أن العاطفة لا تكفي وحدها لدحر تلك المخيلة، بل يجب استتباعها بجملة إجراءاتٍ لعلّ أهمّها فك الارتباط الفكري - اللساني - الثقافي، والتوجه صوب الانعتاق الحقيقي المبني على خيارات استراتيجية بمشروع نهضوي، يقرّبنا من تحقيق حلم بلوغ المكانة التي في الجزائر، بالنظر إلى مقدراتها، تاريخها وزخم الجوار الطبيعي، وخصوصا منه المغاربي. ومن دون ذلك استمرار فرنسا في اللعب على أوتار الجهوية، العرقية، والتركة الاستعمارية الأخطبوطية.
إنّها معركة وجود، بحقّ. وليس يوصل الجزائريين إلى الانتصار فيها إلّا الوعي بحيوية ومفصلية الموقف الذي يوجدون فيه وأدوات الانتصار: الحوار، الوحدة والتوافق، موجودة ومتوفّرة. ويمكن تعزيزها، ليولد عنها تلك الجزائر الموعودة والمرغوبة.. إنها معركة إنهاء "القابلية"، وفق منظور مالك بن نبي، رحمه الله، والعروج الحضاري، بمنظوره أيضاً.