كابوس الدقيقة 22

كابوس الدقيقة 22

14 يوليو 2019

صورة أبو تريكة في ملعب رفح الفلسطينية (30/6/2019/فرانس برس)

+ الخط -
هو خارج المضمار، غير أنه اللاعب الأهم في الملعب، لا يدخل إلا في الدقيقة 22 من وقت المباراة، ليسجل هدفًا ماحقًا، ثم يغادر بعد أن يكون قد حسم المباراة لصالحه. ذلك هو محمد محمد محمد أبو تريكة، وتلك هي بطولة أمم أفريقيا، الجارية أحداثها اليوم في القاهرة.
لم يشأ أن يكون بطلًا، غير أن البطولة أبت إلا أن تنصف رياضيًّا مهذّبًا خرج على أخلاق القطيع، في اثنتين: الأولى حين رفع شعار التضامن مع غزة ذات مباراة يذكرها التاريخ، والأخرى عندما رفض انقلاب العسكر على صناديق الاقتراع في بلده، فأصبح عدوًّا لدودًا على رأس المطلوبة رؤوسهم لدى نظامٍ لم يعد له من أعداء غير شعبه فقط.
في الدقيقة 22 من كل مباراة طرفها عربي، تتعالى هتافات الجماهير المنادية باسم محمد أبو تريكة على المدرّجات، وفي الدقيقة ذاتها تحتقن عروق عسكر الانقلاب، عندما تخترق أجسادهم تلك الهتافات كالطعنات، لأنهم يدركون حينها أنهم خسروا مباراة جديدة مع شعوبهم المصرّة على تسجيل "هدف" جديد في مرمى الحرية، المحاط بحرّاس غلاظ من أمثال عبد الفتاح السيسي وأضرابه من طغاة العرب، فترتجف أوصالهم، خوفًا من "المباراة الفاصلة" التي تقترب أزيد فأزيد، مع كل هتافٍ يصعد من حناجر الجماهير.
ولئن كانت "الجماهير"، في المصطلحات الرياضية، تحسب بوصفها اللاعب الثاني عشر، فإنها على المدرجات المصرية اليوم أصبحت اللاعب الأول والأساسي، وليس ثمّة بدلاء على دكّة الاحتياط؛ لأن المعركة ضد الاستبداد تتطلب أن يخوضها الجميع بلا استثناء، مثلما يؤشّر انخراط جماهير عربية أخرى في الاحتفاء بالدقيقة ذاتها إلى أن التوق إلى الحرية هو مطلب جماعي، لا يقتصر على الشعب المصري فقط.
وعلى الملعب ذاته، يلفظ مصطلح "عدم تسييس الرياضة" أنفاسه الأخيرة، وهو مصطلحٌ ماكر، ابتكرته الأنظمة العربية على الأرجح، على الرغم من أنها أول "المسيّسين" للرياضة، ولأي تجمعات جماهيرية مماثلة؛ في محاولاتها البائسة لإظهار شعبيتها، فتدسّ أزلامها بين الجماهير، ليرفعوا صور الزعيم، ويهتفوا باسمه، طوال دقائق المباراة وأشواطها، مثلما فعلت، أيضًا، في شعار "عدم تسييس الدين" الذي يحق لها هي فقط أن تخالفه حين توظف الدين وتسيّسه لتثبيت عروشها، ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، فيما تطارد أي متديّنٍ لا يدور في فلك المسبّحين بحمدها، أو من الذين لا يعتبرون الزعيم هبة إلهية، قلّ أن يجود الزمان بمثلها.
تغيرت قواعد اللعبة هذه المرة.. غيرتها الدقيقة 22 التي أراهن أنها غدت كابوسًا يقض مضاجع الطغمة الانقلابية في القاهرة، وفي مقدمتها عبد الفتاح السيسي الذي كان يحلم بأن يجعل من مناسبة كأس الأمم الأفريقية فرصةً ثمينة لإظهار إنجازاته التي "لم يحققها زعيم منذ بدء التاريخ البشري"، وفق أحد المداهنين له على شاشة التلفاز، غير أن الوقائع التي شهدتها البطولة جاءت لتمثل انقلابًا على الانقلاب ذاته، حين تحالفت حتى أجهزة الصوت ضده، وهو يلقي كلمته الافتتاحية، ثم جاءت الدقيقة 22 لتبرهن، بما لا يدع مجالًا للشك، انحياز الشعب المصري، لا لمحمد أبو تريكة بوصفه لاعبًا، بل لكونه رمزًا نقيضًا لاستبداد الجنرالات، فمن يهتفون له الآن إنما يدينون الطغاة، ومن ينادون باسمه إنما يهتفون لغزة، ولرفع الحصار الظالم عنها.
عمومًا، ثمة دقيقة واحدة في حياة الشعوب، لا يشبه بعدها ما قبلها، يعرفها الطغاة جيدًا، ويحسبون لها ألف حساب. ولذا تراهم على استعداد لحشد آلتهم العسكرية والقمعية كلها على باب مرماها، كي لا يدخل "الهدف القاتل" فيه. ولكن هيهات، فقد أصبح يوم الحساب أقرب مما يظنّون.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.