بولونيا.. موعد مع التاريخ

بولونيا.. موعد مع التاريخ

14 يوليو 2019

احتفال في ذكرى اتفاقية غدانسك في بولونيا (31/8/2017/Getty)

+ الخط -
في زمن المراهقة، حيث لم يكن لدينا، ولا لدى سوانا، إنترنت ولا من يحزنون، اعتمد من أحب تبادل الرأي، بحذر شديد في ظل المنظومة السياسية الكارهة للحرية، على ممارسة المراسلة، دوناً عن ركوب الخيل الذي كان محصوراً بالنخبة المهيمنة. وقد كانت الرسالة تطول لتصبح شبه قصة قصيرة، نعهد بها إلى دائرة البريد مع إغلاق غير محكم، لمعرفتنا بتطفّل العاملين الأمنيين في هذه الإدارة، وسعياً كي لا يجري تمزيق المغلف وإتلاف الرسالة. وكان الأمنيون والإداريون في البريد يهتمون أساساً بسرقة ما يمكن مقابلته بالمال. أما الرأي السياسي، فيمر أحيانا بسهولة نتيجة انسجام عامليْن، الجهل بالمضمون والاهتمام المادي المحصور. وكانت أهم سرقاتهم بعض المال المرسل غباءً واحتياجاً في المغلفات البريدية، حيث لم يكن مسموحاً تحويلها نظامياً إلا بشقّ الأنفس والجيوب. كما اشتهرت سرقات المجلات الأجنبية التي سرعان ما تجد تصريفاً لها على بسطات بيع الكتب المستعملة والمجلات الأجنبية، الممنوعة جنسياً أو سياسياً. وأخيراً، تخصص بعضهم في سرقة المجلات النسائية التي فيها نماذج من اللباس وموديلات يمكن لها أن تفيد ممارسي الخياطة النسائية، الزبون الأفضل. 
انحصرت مراسلاتي مع صديقتين فرنسيتين، كانتا تهتمان بشؤون الشرق الأوسط من خلال دراستهما الثانوية. واكتشفت معهما مدى جهل منظومتنا التعليمية المستمر، فأول اتصال كان لتحضير "مداخلة تفصيلية" في الصف، لإحداهما عن مسألة الأنظمة القمعية في الشرق العربي، خصوصاً في سورية وفي العراق. وقد استغربت بدايةً هذا الموضوع، سائلاً مخاطبتي عما إن كنّ عضواتٍ في حزب أو مجموعة سياسية، فأجابتا بالنفي، ولكنهما استفاضتا في شرح طريقة التعليم التي تستوجب على الطالب، حتى وهو في الإعدادية، أن يبحث في المكتبة، لتحضير حلقة بحثية، يستعرض من خلالها فهمه موضوعاً ما. وبالطبع، كانت هذه الممارسة البحثية غريبة، وما زالت، عن أحلامنا، لأنها تطوّر المدارك وحب الاستطلاع والفهم الصحيح، كلمات تُشكل صداعاً للمستبد.
في سنة 1980، أتحفنا أساتذتنا بالحديث عن احتجاجات يقوم بها مندسّون (منذ ذاك الوقت) 
في بولونيا ضد النظام الاشتراكي الحاكم، والمدافع عن "قضايا الشعب" وعن "الديمقراطية الشعبية". وأشاروا، ضمن كلامهم، إلى دورٍ إجرامي لبابا الفاتيكان، البولوني الأصل حينذاك، وإلى المخابرات الأميركية البشعة، في تحالفٍ أدى إلى نشوء حركة احتجاجاتٍ عمالية في مصانع السفن في مدينة غدانسك، جُلُّ مطالبها حينذاك هو القيام بإصلاحات هيكلية في الاقتصاد، ورفع اليد والبسطار عن حرية التعبير، والسماح بتشكيل نقاباتٍ عماليةٍ مستقلة بديلاً عن نقابات الأمن/ الحزب الحاكم. وبما أننا كنا عديمي المعرفة بما يجري حولنا، إن نحن اعتمدنا على صحفنا الماسحة للزجاج وللمعرفة، أو على تلفزتنا المهتمة بتكاثر كلاب البحر على اليابسة، فقد تأثرنا بما هرف به أساتذتنا، وصرنا نكنّ ألد المشاعر تجاه احتجاجات غدانسك.
أرسلت لي الصديقتان رسالة مطولة، تشرحان لي أبعاد ما يحصل في بولونيا، فحملت الرسالة إلى أساتذتي، محتجاً على غسيل عقولنا، والاستهزاء بذكائنا، مشيراً إلى شرعية الحركات الاحتجاجية التي أفضت إلى مفاوضاتٍ أجرتها السلطة الشيوعية حينذاك، وسمحت في نهايتها بتشكيل نقابة مستقلة، سرعان ما ضمت أكثر من عشرة ملايين عاملة وعامل. وصمت أساتذتي لوهلة طالت، وسرعان ما همس لي أحدهم، قائلاً: "أنت تؤلم الرأس، وسندعك تتألم لوحدك، ولا تسبب لنا مشاكل".
بدأت احتجاجات غدانسك في أغسطس/آب من سنة 1980 من خلال مظاهرات حاشدة، وإضرابات متلاحقة في ورشات تصنيع السفن وإصلاحها في هذه المدينة الساحلية. وسرعان ما جلست الحكومة الشيوعية على طاولة المفاوضات، لمّا شعرت بحجم الاحتجاجات. وقد استمرت الاحتجاجات، على الرغم من الترخيص لنقابة التضامن، المستقلة، على مدى سنوات فيها مدٌّ وجزر، وأفضت، في نهاية المطاف سنة 1989، إلى تنحّي الجنرال جاروزيلسكي وقيام الديمقراطية في البلاد.
وفي أغسطس/آب المقبل، يحتفل البولونيون بمرور 39 عاماً على بدء مسار سلمي للتحرّر من 
سلطةٍ مستبدةٍ وفاسدة، تلطت بمبادئ إنسانية واشتراكية. مسار استمر تسع سنوات، ولم يحد عن أهدافه، على الرغم من سعي السلطة السياسية حينذاك إلى مختلف أشكال الترغيب والترهيب. ومهما كان دور الغرب التدخلي في هذا الحراك، حيث لا يمكن نفيه بالمطلق، إلا أن إرادة الشعب البولوني المشتركة زوّدته بالوقود الكافي لتجاوز كل العقبات.
سنة 1980، جرّد النضال السلمي لنقابة التضامن البولونية، النظام الاستبدادي، من أسلحته السياسية والأمنية. ومع أن الأمر أخذ سنواتٍ طويلة، إلا أنه أفضى، في نهاية النفق، إلى الخروج من العتمة، والتي، بنسبٍ متفاوتة، يُحاول اليمين المتطرّف الكاثوليكي، المهيمن ديمقراطيا على الحكم اليوم، إعادة البلاد إليها عبر سياساتٍ نيوليبرالية اقتصادياً، وشديدة المحافظة والرجعية اجتماعياً وثقافياً. في المقابل، تتحرّك مجموعات مدنية عدة، إضافة إلى أحزاب تقليدية فقدت من قوتها ومن مصداقيتها، باتجاه تأجيج حراك احتجاجي سلمي جديد، للتذكير بأن من قدر يوماً على استبداد باسم اليسار سيقاوم هيمنة اليمين المتطرّف، مهما تسلّحت بمفاهيم دينية وشعبوية متجدّدة في ظل أزمات الاقتصاد والهوية في بعض أوروبا.