احتكار العمل السياسي الفلسطيني

احتكار العمل السياسي الفلسطيني

14 يوليو 2019
+ الخط -
يدرك الفلسطينيون خطورة المرحلة الراهنة وتأثيراتها الكبيرة على مستقبل القضية الفلسطينية، وهو ما ينعكس ميدانياً في تصاعد المقاومة الشعبية، بشقيها الجماعي والفردي، وتعدّد المراجعات والتحليلات السياسية التي غالبا ما تفضي إلى طروحاتٍ سياسيةٍ واضحة ومحدّدة، أو عامة وفضفاضة، تسعى إلى كسب تأييد شعبي كبير وواسع. وعلى الرغم من هذا الزخم الكبير، إلا أنه لم يُفض، حتى اللحظة، إلى بلورة تيار أو اتجاه سياسي وشعبي واضح المعالم، وقادر على اختراق الساحة السياسية الفلسطينية، نتيجة جملة من العوامل، مثل الحاجة إلى مزيدٍ من الوقت حتى ينمو ويتجسّد فعليا، بالإضافة إلى العوامل المرتبطة برفض الطرف الرسمي الفلسطيني، وكذا الطرف الإقليمي والدولي، ذي التأثير الكبير والحاسم تاريخياً، هذه المحاولات.
تتشكل الساحة السياسية الفلسطينية الرسمية من القوى والفصائل، سواء المنضوية تحت عباءة منظمة التحرير، أم الساعية إلى المشاركة فيها، خصوصا حركتي الجهاد الإسلامي وحماس، وتخضع هذه الساحة لتحكم شبه مطلق من الداعمين الإقليميين والدوليين، وهو أمر لا يخفى على أحد تاريخيا وراهنا، فمنها المدعوم من دول الخليج العربي، ومنها المدعوم مصريا، خصوصا في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبعضها مدعوم عراقيا أو سوريا أو ليبيا، في عهدي صدام حسين ومعمر القذافي، وتبعها تدخّل ودعم إيراني ما بعد إسقاط نظام الشاه، وتمكّن الخميني من السيطرة على مقاليد الحكم في إيران، وإقامة نظام المرشد فيها، فضلاً عن الدعم السوفييتي سابقا، والدعم غير المباشر من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية ما بعد انتهاء الحرب الباردة، عبر منظمات غير حكومية؛ والدعم المباشر بعد توقيع اتفاق أوسلو تحت عنوان دعم السلطة الوطنية الفلسطينية.
وبالتالي، لا يمكن حصر الدور العربي والخارجي على الساحة الفلسطينية بدوره في تشكيل 
منظمة التحرير وحركات التحرّر الفلسطينية فقط، بل يمتد إلى اللحظة الراهنة، بتزكية فصيل وتوجه على حساب آخر، ما ساهم في محاصرة خيارات سياسية عديدة وطمسها، لصالح مجموعة محدودة من الخيارات المتوافقة مع توجهات النظامين، العربي والعالمي، السائدين، حتى تقلصت التباينات والتناقضات بين القوى والفصائل الفلسطينية إلى حدّها الأدنى، إلى درجةٍ بات من الصعب إيجاد فروق سياسية مهمة، خصوصا فيما يتعلق بالمسائل الأساسية، كطبيعة الصراع ومقومات الحل، لتنحصر الخلافات المعلنة على قضايا ذات طابع مصلحي غالبا، وعلى شكل الدولة المنشودة ونظامها وقانونها، أو على تكتيكات سياسية بسيطة لا تؤثر على المسار العام. في حين يدرك غالبية الفلسطينيين أن الصراع على السلطة والتحكم فيها هو جوهر الخلاف الوحيد بين مجمل القوى والفصائل الفلسطينية، خصوصا بين حركتي فتح وحماس.
ولذلك تتحد جميع القوى والفصائل الفلسطينية في مواجهة أي طرح أو مشروع أو مبادرة سياسية، مهما كانت بسيطة وذات حجم صغير، خوفا من كسر احتكارهم الساحة السياسية الفلسطينية، وافتضاح أمرهم، وانتزاع آخر ذريعة لاستمرارهم حتى اللحظة؛ بعدما فقدوا الجزء الأكبر من مشروعيتهم الشعبية، وباتوا أشبه بالدكاكين السياسية المسؤولة عن توزيع المنح والهبات والوظائف على أنصارهم أو مدّعي ذلك، خصوصا في الضفة الغربية وقطاع غزة، بحكم محدودية؛ أو شبه انعدام؛ فرص العمل الحقيقي فيهما، وبدرجة أقل قليلا خارجهما. إذ يكيلون الاتهامات جزافا لأي مبادرة من دون دليل ملموس، بغرض تشويه سمعة القائمين عليها. على اعتبارها محاولاتٍ تسعى إلى تقويض منجزات الشعب الفلسطيني ومرجعياته، ممثلة في الفصائل ومنظمة التحرير، متناسين أن شرعيتهم الحقيقية يجب أن تستمد من الشعب داخل فلسطين وخارجها، وأن مقومات بقائهم وسيطرتهم على الساحة السياسية الفلسطينية مستمدة اليوم من التزاماتهم الأمنية تجاه النظام العربي الاستبدادي، على حساب مصالح الشعوب العربية، خصوصا الفلسطينيين منهم، جاعلين من مخيمات الشتات الفلسطيني ملفاتٍ أمنية، يجب ضبطها وتأطيرها وفق أهواء السلطات الأمنية الحاكمة وتوجهاتها، عوضاً عن الدفاع عن مصالح سكانها اليومية والأساسية وحاجاتهم، بما فيها حق العودة، والحق في استعادة كامل الأراضي المحتلة.
ومن أجل ذلك، كان لابد من تهميش القرار والإرادة الشعبية، وسلب الفلسطينيين حقهم في اختيار قادتهم وممثليهم الحقيقيين بصورة ديمقراطية، وعلى أرضيةٍ صلبةٍ تكفل للجميع طرح الأفكار والآراء والتوجهات، بعيداً عن حملات التشويه والتخوين والعمالة، جاعلين من المحاصصة السياسية وسيلة وحيدة لتبوؤ المناصب القيادية داخل مؤسسات المنظمة والسلطة الوطنية بفرعيها في الضفة الغربية وقطاع غزة. وجاعلين من أموال الشعب الفلسطيني أملاكا شخصية، يوزّعونها وفق أهوائهم ومصالحهم، وأصبحت أموال القوى السياسية التقليدية الخاصة ملفاتٍ سرّية يحظر الحديث فيها وعنها، وعن مصادرها الخارجية طبعا، لضروراتٍ أمنيةٍ وسياسيةٍ، على اعتبارها قوى تحرّرية "سرية"، لا يجوز بأي شكل الحديث عنها علنا، في حين تقذف أي مبادرة سياسية باتهاماتٍ تدور حول شبهات مالية وتبعية الجهات الممولة.
ندرك جيداً خطر التمويل الخارجي على مسار أي حزب وأي عملية سياسية، لا سيما على
 واحدة من أعقد قضايا المنطقة وربما العالم وأهمها، كالقضية الفلسطينية، وهو ما يفرض علينا التمعن جيداً في تبعات التمويلات، الإيراني والخليجي والعربي، للقوى والفصائل التقليدية، فضلاً عن تبعات التمويلين، الأوروبي والأميركي، وأن لا نكتفي بملء الدنيا صراخا وتحذيرا من خطر هذا التمويل على القضية ومسارها وحقوقنا وإنجازات النضال الفلسطيني، فقط عندما يوجه لصالح منظمات فلسطينية غير "حكومية أو فصائلية"، أو عند تسخيرها من أجل عقد حوارات ومشاورات بين نخب فلسطينية مستقلة، ترفض الفصائل والسلطة والمنظمة تمويل لقاءاتهم ومشاوراتهم وفاعلياتهم من أموال الشعب الفلسطيني، من دون هيمنتهم عليها، وعلى نتائجها المستقبلية بصورة مسبقة وموجهة!.
وبالتالي نحن مطالبون اليوم بكسر منظومة الاحتكار السياسي والمالي والتنظيمي والخطابي والجهوي، القائمة على الخضوع الكامل لهيمنة (وسطوة) المال السياسي والنظام العالمي والعربي والإقليمي الذي يمر عبر القوى والمؤسسات التقليدية، ومواجهته ومعارضته. وهو ما يتطلب هدم الأسس الفاسدة غير النزيهة التي سمحت بحدوث ذلك، وبناء مرتكزات جديدة للعمل السياسي الفلسطيني، تحول دون عودة أي شكل من احتكار المجال العام، وتحصينه من تبعات الخنوع للممولين والمانحين، عبر تعزيز آليات التمويل الذاتي التطوعي والمنظم، وإخضاع ذلك كله إلى رقابة وإدارة سياسية وشعبية مطلقة، تستمد شرعيتها السياسية والقانونية من جميع أبناء الشعب الفلسطيني، أينما كانوا؛ استنادا إلى آليات ديمقراطية عملية وواقعية؛ تفسح المجال للمشاركة والنقد والمعارضة في أجواء حرة وعادلة ومتساوية، من دون تمييز بين توجه وآخر، وبمعزل عن هيمنة وتأثير الداعمين أيّا كانوا.
75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.