لبنان: السفن الطائفية

لبنان: السفن الطائفية

13 يوليو 2019
+ الخط -
قد يظنّ المرء أن في وسعه تجاهل تفاصيل معينة، على أساس أنها "بديهية"، فيما هي أكبر بكثير. ويحصل في خضمّ تفكيرك أو سعيك أو إقناعك أشخاصاً كثراً بضرورة قيام دولة مدنية في لبنان، تحمي حقوق الإنسان قبل الطوائف، أن تسمع خبراً تعتقد أنه ينتمي إلى ثمانينيات القرن الماضي، أي زمن الحرب اللبنانية. قبل بضعة أيام، أوردت الوكالة الوطنية للإعلام اللبنانية خبراً مفاده: "أعلنت مجموعة (طريق لبنان) أن 32 سفينة يقودها أشهر البحارة، جان ماري فيدال البالغ 75 عاماً، أبحرت من مرسيليا في فرنسا إلى لبنان، تقديراً لدور لبنان وصموده، على الرغم من كل رياح الإرهاب التي ضربت الشرق الأوسط". وذكرت المجموعة أن "السفن كانت انطلقت في 16 يونيو/ حزيران الماضي من الميناء الفرنسي، وكانت لها محطات عديدة، من ميناء بونيفاسيو في الطرف الجنوبي من جزيرة كورسيكا إلى ميناء ليباري في إيطاليا، فميناء كالاماتا - جنوب اليونان، ثم ميناء آغيوس نيكولاوس في اليونان، وصولاً إلى ميناء لاتشي في قبرص"، قبل أن تصل، في محطتها الأخيرة، إلى مرفأ جونيه شرق بيروت. واعتبرت المجموعة أن "عنوان الرحلة هو الأهم، خصوصاً أنها أتت لدعم المسيحيين المضطهدين في الشرق الأوسط، بعد الحروب التي واجهتهم، واللافت أن وجهة الرحلة ستكون للمرة الأولى خارج أوروبا، فالمعروف عن جان ماري فيدال ومجموعته أنهم يبحرون من منطقة إلى أخرى داخل القارّة العجوز".
حسناً، لماذا على مجموعة فرنسية المجيء إلى لبنان "لدعم المسيحيين المضطهدين"؟ أليس هناك من مضطهدين غير مسيحيين؟ وبعد، ماذا لو قرّرت دولة إسلامية القيام بالأمر عينه تجاه أبناء الطوائف الإسلامية، كيف سنمضي حياتنا: استقبال سفينة مسيحية ثم أخرى إسلامية؟ من قال إن دعم الإنسان المضطهد مبني على انتمائه الطائفي أو القومي أو المذهبي؟ من قال إن السفن الـ32 ستخدم المسيحيين، فيما ستغادر المرافئ اللبنانية، وتعود إلى موطنها، وكأن شيئاً لم يكن؟ هل سيتوقف ما تعتبره اضطهاداً؟ كان يمكن لهذه السفن الإبحار تحت عنوان "دعم الإنسان في لبنان والشرق الأوسط"، وستجد لها أنصاراً ومحبين وشاكرين. أما ما عداه فمجرد خطوة إضافية في تكريس التباعد بين الطوائف اللبنانية، وترسيخ مفهوم أن "الفرنسيين يهتمون بمسيحيي لبنان"، في مقابل دعم إيران الطائفة الشيعية، ودعم الخليج عموماً الطائفة السنيّة. وإذا كان المسيحيون يشعرون حقاً بالاضطهاد في لبنان، فلماذا لا تدعمهم مؤسساتهم الدينية، سواء في المسكن والمستشفيات والمدارس؟ ولماذا ينشغل الزعماء المسيحيون والأحزاب المسيحية في معارك إلغاء متبادلة "في ظلّ الخطر الخارجي"؟
الحقيقة أن "الاضطهاد" الذي رفعته تلك السفن الـ32 شعاراً، غير موجود سوى في قاموسهم وقاموس الشعبويين فقط. لا اضطهاد لطائفةٍ في لبنان، بل إن الاضطهاد يلاحق المواطن في لبنان. لا نحتاج في لبنان إلى من يرسل السفن كل 20 أو 30 عاماً، حيناً لترحيل طائفة ما، وحيناً آخر لدعمها. نحتاج في هذا البلد إلى أمر واحد: إخراج الطائفية من مفهوم الخدمة العامة، لتستقيم العدالة. لا نحتاج إلى حساباتٍ كثيرة. لا نحتاج أصلاً لأكثر من كسر الحدود، فلا بلدة ممنوعة على أحد، ولا منطقة مطوّبة باسم أحد، ولا أملاك مسلوبة من مجموعة لصالح أخرى.
صعبٌ في مثل هذا الجيل أن تجد من يفكر بهذه الطريقة، فتطييف أي قضيةٍ يجعلها خاسرة. الفقر والتدهور الاقتصادي والإرهاب لا يطاول مجموعة دون أخرى، بل كل من هو موجود على وجه الأرض في الشرق الأوسط هو مشروع ضحية. ربما كان الأجدى بتلك السفن لو أنها لم تأت مطلقاً، وعكفت على إقناع دولها الأم بمساوئ سياساتها في المنطقة التي تضرب جميع سكانها، حينها ستكون القضية مستحقةً لأنها باسم "الإنسان" فقط.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".