هوامش العنف في إدلب

هوامش العنف في إدلب

12 يوليو 2019
+ الخط -
لا تسيطر الثورة السورية سوى على 10% من مساحة الأراضي السورية، بحسب ما تُظهِره أحدث الخرائط المتابعة للحرب هناك. وعلى الرغم من أن ترحيلا وتهجيرا واسعين جريا على مدى ست سنوات باتجاه إدلب؛ وأوهم الثوار أنّ إدلب ستُترك لهم؛ إلاّ أنّ الحرب الجوية المستمرة على سماء هذه المنطقة المنكوبة، وخصوصا الحدود مع مناطق النظام السوري، تقول إنّ التحالف الأسدي الروسي الإيراني لا ينوي ترك إدلب، بل ينوي قضم أطرافها في تقدّم برّي، مصحوبًا بغطاء من القصف الجوي؛ كما فعل في المناطق التي سيطر عليها الثوار سابقًا. ويستمر التحالف الأسدي الروسي الإيراني بتنفيذ المخطط نفسه في إدلب هذه المرة.
صُعّد القصف الجوي الروسي على إدلب وريف حماة الشمالي متزامنًا مع تقدم قوات "الفيلق الخامس" التي شكلتها القوات الروسية منذ ثلاث سنوات. قد يعود غياب المليشيات الشيعية (اللبنانية والعراقية والأفغانية) التي تولّت الحرب البرّية في القصير وحمص وداريا والغوطة وحلب إلى التحرّك السياسي للسعودية والإمارات في العام الأخير، لتقليص حجم النفوذ الإيراني في سورية، وقد يعود إلى عدم اهتمام إيران الكبير بإدلب كذلك.
يحاول الثوار التقدم باتجاه مناطق سيطرة النظام عبر معركة "الفتح المبين"، ولكن يعاجلهم القصف الخسيس الذي يتعمد قتل البشر وإهلاك الحرث والزرع. فمنذ يومين، استهدفت الصواريخ والمدفعية منطقة سهل الغاب، فأتلفت أراضي زراعية، وقتلت ستة مزارعين. هذه حادثة قصف واحدة ضمن عشرات حوادث القصف العنيفة التي لا يهتم المجتمع الدولي بإيقافها. في ثلاثة أسابيع فقط من حملة القصف الجوي في مايو/ أيار، وثقت "هيومن رايتس ووتش" عشرَ هجمات جوية بصواريخ الذخيرة العنقودية. وهذا فصلٌ واحدٌ فقط من فصول الهجمة الجوية الشرسة المميتة.
ليست هذه حربًا متكافئة يتقاتل فيها جيشان أو عدوّان، يحاول كلٌّ منهما إلحاق الهزيمة بالآخر، 
بل هي جريمة لا يتورّع فيها النظام الأسدي الروسي الإيراني عن ارتكاب "جريمة إبادة" على مرأى ومسمع من العالم كله. عبثًا حاول الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية مناشدة "المجتمع الدولي" للقيام بواجباته لحماية المدنيين الذين يتعرّضون للقصف يوميًا في مناطق خفض التصعيد. ولكن لا حياة لمن تنادي.
منذ بدء التصعيد الشديد في 2 مايو/ أيّار الماضي، قتل ألفٌ من المدنيين الآمنين في القرى والمدن التي استهدفها القصف الروسي؛ بل وهُجِّر آلافٌ بسبب القصف. وما يؤكد أنّ هذه جريمة خسيسة، وليست حربا متكافئة، أنّ التحالف الأسدي الروسي لا يلتزم بقتال برّي، وجهًا لوجه مع الثوار والمقاتلين؛ بل يقصف المدنيين الآمنين، لقتل من تطاولهم ذخائره، وإرهاب من أخطأته القذائف ليهرب، ويترك أرضه.
يستطيع الثوار في حربٍ برية أن يلحقوا الهزائم بالفيلق الخامس، يقتلون من جنوده ويكبدونه خسائر مادية، لكنّ الحرب الروسية لا تهدف إلى قتال حقيقي مع الثوار، بل تهدف إلى قتل المدنيين وطردهم من أرضهم، فالفيلق الخامس غير معدٍّ جيدًا، كما تقول تقارير، ولا يستطيع قتالَ الثوار في مواجهة برية متكافئة، بل يترك قتلهم للقصف الجوي، ما جعل ثائرًا ومقاتلاً شجاعًا ومقدامًا، مثل عبد الباسط الساروت، يُقتل في غارة جوية، وليس على الجبهات.
هذه ليست حربًا متكافئة، بل جريمة إبادة. هذا واضحٌ للعيان. ولمزيد إيضاح، المشافي أكثر الأماكن تعرضًا للخطر، إذ قُصفت خمسة وخمسون مستشفى في مناطق الثوار بعد شهرين من القصف المستمر، منها مستشفى يخدم أكثر من خمسمئة ألف مدنيّ؛ بحسب بيان اتحاد منظمات الإغاثة الطبية. بل تقول تقارير إن إحداثيات المستشفيات في إدلب أعطيت إلى جميع أطراف الحرب، لحمايتها من الهجمات. ولكن ما حدث أنّ سلاح الجو الروسي استغلّ هذه المعلومات، وهذه الثقة التي أعطيت له، ليقصف المشافي التي طولب بحمايتها، ويمنع العلاج عمّن تصيبهم الجراح جرّاء القصف ليلحِقَهم سريعًا بقطار الموت الذي قد لا يعاجلهم في التو واللحظة، ويدفع من استطاع منهم عبور الحدود مع تركيا ليذهب ولا يعود. ويدفع السالمون "بالخطأ" إلى اللجوء إلى الشريط الحدودي الشمالي الذي فرّغته تركيا لمخيمات السوريين اللاجئين.
هذه الجريمة بحقّ المدنيين، والمستمرة منذ بدأت الثورة السورية، والباقية حتّى الاستيلاء على 
الـ 10% من الأراضي التي يسيطر عليها الثوّار، ودفع سكّانها الذين لم يتمكن القصف الروسي الأسدي من قتلهم إلى الشريط السوري مع تركيا، هذه الجريمة المستمرة بقتل المدنيين لم تلفت نظر العالم، ولم يهتم بها، وهي لا تقع سوى على هامش العنف في اهتمام العالم. حين تحدث حادثة عنف جماعي يرتكبها أفرادٌ مارقون، ويُقتل فيها مدنيون أو عسكريّون في أي بقعة، تتصدر الحادثة منصات الإعلام؛ ولكن حين يتكالب جيشان نظاميان وعشرات المليشيات المتحالفة معهما، أو الرديفة لهما كما تطلق عليهما منصّات النظام الأسدي، فإنّ هذه الجرائم تهبط إلى هامش العنف مباشرة.
لا مساواة ولا عدالة مطلقًا في الإعلام، بل يكفي فرد مارق أو أفراد مارقون في نيوزيلندا أو سريلانكا أن يشغلوا الإعلام ليلاً ونهارًا في أسابيع طوال، في حين أنّ جريمة إبادة متكاملة الأركان لا تنال سوى هامش اهتمامٍ في قنوات محلية، لا يتابعها سوى المعنيين أو المهتمين، أمّا وسائل الاتصال الضخمة المنوط بها مخاطبة جماهير غفيرة فلا تعطي "جريمة إبادة" سوى هامش بسيط، حين ينكزها ضميرها المهني.
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
خديجة جعفر

كاتبة وباحثة مصرية، ماجستير في الفلسفة من الجامعة الأميركية في القاهرة.

خديجة جعفر