في ثمانين ضياء العزاوي

في ثمانين ضياء العزاوي

12 يوليو 2019
+ الخط -
أن يُتمّ التشكيلي العراقي، ضياء العزاوي، قبل أيام، ثمانين عاما، فهذه ليست مناسبةً فقط للدعاء للرسام العالمي بطول العمر، وإنما أيضا لاستدعاء الغنى الشاسع الذي يحضُر في منجزه المديد، في ألوانِه وتخطيطاتِه ورسومه وجدارياته ولوحاته ومنحوتاته، منذ نحو خمسةٍ وخمسين عاما. ومن بديع ما نحن محظوظون به للإطلالة على عمارة هذا الفنان الباذخة، في مناسبة ثمانينيّته (مثلا) أن المتحف العربي للفن الحديث، في الدوحة، أصدر، قبل أقل من عام، كتابا فريدا، أظنّه غير مسبوقٍ من نوعه لأي فنان عربي، اسمُه "ضياء العزّاوي.. معرض استعادي من 1963 حتى الغد"، في نحو خمسمائة صفحة، تمّت طباعته في إيطاليا، ضم نحو ستمائة صورة لكل أعمال الرسام، في تجاربه اللونية والتشكيلية في أكثر من خمسة عقود، وهو الذي كان ينعطف إلى اختبارٍ جديدٍ لمَلَكاتِه كلما استشعر في روحه تطلّعا إلى أفقٍ ما يقصد أن يضرب إليه سهما، أو ناوشتْه في حواشيه ضربةٌ بريشته، راهن على عبورها إلى برزخٍ ما بين جمالٍ وجمال. .. 
وأن يجتمع كل ضياء العزاوي في كتابٍ أنيق، متْقن، يشتمل على إيضاحاتٍ وإحالاتٍ وافيةٍ إلى محطاتٍ وخياراتٍ عديدةٍ عبر إليها صاحبنا، وأقام ومرّ فيها، وتوقف عندها، وتجاوزها، وأن يضم أيضا نصا رهيفا أعدّه العزاوي، يقدّم فيه نفسَه، فذلك كله، وغيره، يساعد المتجوّل في خرائط هذا الفنان ومسارات ألوانه، كما يحيط بها الكتاب، على أن يتعرّف بشكل أوثق، وأوفى، إلى ضياء وفنّه، إلى ما عجنهما وما شكّلهما في أكثر من نصف قرن. كما أن من جميلٍ كثيرٍ في هذا الكتاب، البديع حقا، أنه اشتمل على مطالعاتٍ بصريةٍ، أعدّها عارفون بالتشكيل، وخبيرون بضياء، إذ يضيئون جيدا على ريشته، وارتحالاتها في مطارح جماليةٍ بلا عدد، وفي أسفارها في العراق القديم، وجراحه الباهظة، القريبة والنائية والراهنة، وأيضا في مدارج هذه الريشة إلى فلسطين، أفقا نضاليا، وانتسابا إنسانيا، ونشيجا عاليا. وليسا، العراق وفلسطين، مجرّد موضوعتيْن حاضرتيْن في مختبر ضياء العزاوي الفني، وإنما هما مصدران لإلهامٍ كثيرٍ له، ولغواية تحليقه الدائمة نحو مغامرة الفن البعيدة، الباهرة عندما يخوض فيها رسامٌ من قماشة الفنان الذي يأتي إلى ثمانينياته، مدفوعا بأنه إنما يواصل مشيَه إلى الغد المشار إليه في عنوان الكتاب الاستعادي، الثقيل القيمة. 
البشريُّ كثير الحضور في أعمال العزاوي، منذ مشاركته الأولى في معرض في 1963، العيونُ الواسعةُ المبهوتة غالبا، الأجساد المرمية، الأكفّ، الأيدي، الوجوه، السيقان غير المكتملة. حتى في رسماته، مثل التي رافقت قصص غسان كنفاني المجموعة في كتابٍ ضمّها. والعراق الذي رسمَه صديقنا، واحتل مواقع مركزيةً في تجربته، كان ناسا أكثر منه مكانا، كان روحا تظلّل إفادة الرسّام، بمهارته التقنية، من السومريات والثقافة الشعبية، في إيقاعٍ جعله ضياء يشعّ بإحالاتٍ إلى راهنٍ عراقيّ مُتعب، مُنهك، مُنتهك، غالبا. وإذا كان صاحب الثمانين عاما للتوّ قد غادر، إلى حد ما، هذه المناطق من تعبيراتِه الفنية، أخيرا، وراح إلى التلوين، خيارا في تجريبيةٍ قد تعكس استشعارا بأن متاهة اللحظة الراهنة، العربية، بل والإنسانية ربما، تتيح للفنان شيئا من التفلّت، ومحاولته استنطاق التباسٍ ظاهرٍ في واقعٍ لم يعد يحتفل كثيرا بالجمال..
تلوينات ضياء العزاوي في محطته منذ عقد ربما، بعد الذي بادر إليه في تلويناتِه وجوها منسرحة، يضجّ صمتُها بكلامٍ كثير، جاءت بعد تجربته الناجحة مع قصائد لمحمد بنّيس وقاسم حداد، وهو الفنان الذي ربما يكون الأبرز عربيا في مماشاة اللوحة والنص، الرسم والكلمة، القصيدة واللون، في استيحاءٍ غير معلن، أو غير واع ربما، لقولة فيلسوفٍ إغريقي قديم، إن الرسم شعرٌ أخرس والشعر رسمٌ ناطق. ورسوم ضياء العزاوي مع قصائد لمحمود درويش والطاهر بن جلون ومظفر النواب ويوسف الصائغ وغيرهم تنطق بإبداعٍ كثير، ومجيد.. تراها في كتاب المتحف العربي للفن الحديث، مع إضاءاتٍ موفقةٍ عليها. تماما كما ترى فيه سباحة فنانٍ كبير حقا في كشوفاته، وهو الذي يفيدنا، في "خواطر لسيرةٍ ذاتية"، مقالته في مطالع الكتاب، بأن أي عملٍ ينجزه يستلزم منه المكوث على مسافةٍ ما منه، تجنّبا لأي تداخلٍ عاطفيٍّ أثناء نسب العمل إلى تاريخه.. أما نحن النّظارة، الذواقة، فعواطفُ في جوانحنا مشبوبة بحبٍّ، وبشكر كثير، للفنان الذي انحاز للدهشة والجمال، نُزجيها إليه في عامه الثمانين.

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.